الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَسورة البقرة الآية رقم 241
لما بين في الآية السابقة, إمتاع المفارقة بالموت, ذكر هنا أن كل مطلقة, فلها على زوجها, أن يمتعها ويعطيها ما يناسب حاله وحالها, وأنه حق, إنما يقوم به المتقون, فهو من خصال التقوى الواجبة والمستحبة.
فإن كانت المرأة لم يسم لها صداق, وطلقها قبل الدخول, فتقدم أنه يجب عليه بحسب يساره وإعساره.
وإن كان مسمى لها, فمتاعها نصف المسمى.
وإن كانت مدخولا بها, صارت المتعة مستحبة, في قول جمهور العلماء.
ومن العلماء من أوجب ذلك, استدلالا بقوله " حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ " والأصل في " الحق " أنه واجب, خصوصا وقد أضافه إلى المتيقين, وأصل التقوى, واجبة.
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَسورة البقرة الآية رقم 242
فلما بين تعالى هذه الأحكام الجليلة بين الزوجين, أثنى على أحكامه وعلى بيانه لها وتوضيحه, وموافقتها للعقول السليمة, وأن القصد من بيانه لعباده, أن يعقلوا عنه ما بينه, فيعقلونها حفظا, وفهما وعملا بها, فإن ذلك من تمام عقلها.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَسورة البقرة الآية رقم 243
أي: ألم تسمع بهذه القصة العجيبة الجارية على من قبلكم من بني إسرائيل, حيث حل الوباء بديارهم, فخرجوا بهذه الكثرة, فرارا من الموت, فلم ينجهم الفرار, ولا أغنى عنهم من وقوع ما كانوا يحذرون.
فعاملهم بنقيض مقصودهم, وأماتهم الله عن آخرهم.
ثم تفضل عليهم, فأحياهم, إما بدعوة نبي, كما قاله كثير من المفسرين, وإما بغير ذلك.
ولكن ذلك, بفضله وإحسانه, وهو لا زال فضله على الناس, وذلك موجب لشكرهم لنعم الله.
بالاعتراف بها وصرفها في مرضاة الله.
ومع ذلك, فأكثر الناس قد قصروا بواجب الشكر.
وفي هذه القصة, عبرة بأنه على كل شيء قدير, وذلك آية محسوسة على البعث.
فإن هذه القصة معروفة منقولة, نقلا متواترا عند بني إسرائيل, ومن اتصل بهم.
ولهذا أتى بها تعالى, بأسلوب الأمر الذي قد تقرر عند المخاطبين.
ويحتمل أن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم, خوفا من الأعداء, وجبنا عن لقائهم.
ويؤيد هذا; أن الله ذكر بعدها.
الأمر بالقتال وأخبر عن بني إسرائيل; أنهم كانوا مخرجين من ديارهم وأبنائهم.
وعلى الاحتمالين; فإن فيها ترغيبا في الجهاد; وترهيبا من التقاعد عنه, وأن ذلك لا يغني عن الموت شيئا.
" قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ " .
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 244
جمع الله بين الأمر بالقتال في سبيله بالمال والبدن لأن الجهاد لا يقوم إلا بالأمرين.
وحث على الإخلاص فيه, بأن يقاتل العبد, لتكون كلمة الله هي العليا.
فإن الله " سَمِيعٌ " للأقوال وإن خفيت " عَلِيمٌ " بما تحتوي عليه القلوب من النيات الصالحة وضدها.
وأيضا, فإنه إذا علم المجاهد في سبيله, أن الله سميع عليم, هان عليه ذلك, وعلم أنه, بعينه, ما يتحمل المتحملون من أجله, وأنه لا بد أن يمدهم بعونه ولطفه.
مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَسورة البقرة الآية رقم 245
وتأمل هذا الحث اللطيف على النفقة, وأن المنفق قد أقرض الله الملي, الكريم, ووعده المضاعفة الكثيرة كما قال تعالى: " مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " .
ولما كان المانع الأكبر من الإنفاق خوف الإملاق, أخبر تعالى أن الغنى والفقر بيد الله, وأنه يقبض الرزق على من يشاء, ويبسطه على من يشاء.
فلا يتأخر من يريد الإنفاق خوف الفقر, ولا يظن أنه ضائع بل مرجع العباد كلهم إلى الله.
فيجد المنفقون والعاملون أجرهم عنده, مدخرا, أحوج ما يكونون إليه.
ويكون له من الوقع العظيم, ما لا يمكن التعبير عنه.
والمراد بالقرض الحسن: هو ما جمع أوصاف الحسن, من النية الصالحة, وسماحة النفس, بالنفقة, ووقوعها في محلها وأن لا يتبعها المنفق, منا ولا أذى; ولا مبطلا ومنقصا.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَسورة البقرة الآية رقم 246
يقص الله تعالى هذه القصة على الأمة; ليعتبروا وليرغبوا في الجهاد, ولا ينكلوا عنه.
فإن الصابرين صارت لهم العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة; والناكلين; خسروا الأمرين.
فأخبر تعالى أن أهل الرأي من بني إسرائيل وأصحاب الكلمة النافذة; تراودوا في شأن الجهاد, واتفقوا على أن يطلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكا; لينقطع النزاع بتعيينه, وتحصل الطاعة التامة; ولا يبقى لقائل مقال.
وأن نبيهم خشي; أن طلبهم هذا, مجرد كلام لا فعل معه.
فأجابوا نبيهم, بالعزم الجازم; وأنهم التزموا ذلك التزاما تاما.
وأن القتال متعين عليهم, حيث كان وسيلة لاسترجاع ديارهم; ورجوعهم إلى مقرهم ووطنهم.
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 247
وأنه عين لهم نبيهم; طالوت ملكا; يقودهم في هذا الأمر الذي لا بد له من قائد يحسن القيادة.
وأنهم استغربوا تعيينه لطالوت; وثم من هو أحق منه بيتا وأكثر مالا.
فأجابهم نبيهم: إن الله اختاره عليكم; بما آتاه الله من قوة العلم بالسياسة; وقوة الجسم; اللذين هما آلة الشجاعة والنجدة, وحسن التدبير.
وأن الملك ليس بكثرة المال; ولا بكون صاحبه ممن كان الملك والسيادة في بيوتهم.
فالله يؤتي ملكه من يشاء.
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَسورة البقرة الآية رقم 248
ثم لم يكتف ذلك النبي الكريم بإقناعهم بما ذكره; من كفاءة طالوت, واجتماع الصفاف المطلوبة فيه حتى قال لهم.
" إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ " .
وكان هذا التابوت قد استولت عليه الأعداء.
فلم يكتفوا بالصفات المعنوية في طالوت, ولا بتعيين الله له على لسان نبيهم, حتى يؤيد ذلك هذه المعجزة, ولهذا قال: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " فحينئذ سلموا وانقادوا.
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَسورة البقرة الآية رقم 249
فلما ترأس فيهم طالوت, وجندهم, ورتبهم, وفصل بهم إلى قتال عدوهم, وكان قد رأى منهم من ضعف العزائم والهمم, ما يحتاج إلى تمييز الصابر من الناكل قال: " إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ " تمرون عليه وقت حاجة إلى الماء.
" فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي " أي: لا يتبعني, لأن ذلك برهان على قلة صبره, ووفور جزعه " وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي " لصدقه وصبره " إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ " أي: فإنه مسامح فيها.
فلما وصلوا إلى ذلك النهر وكانوا محتاجين إلى الماء, شربوا كلهم منه " إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ " فإنهم صبروا ولم يشربوا.
" فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا " أي: الناكلون أو الذين عبروا: " لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ " .
فإن كان القائلون, هم الناكلين, فهذا قول يبررون به نكولهم.
وإن كان القائلون هم الذين عبروا مع طالوت, فإنه حصل معهم نوع استضعاف لأنفسهم.
ولكن شجعهم على الثبات والإقدام, أهل الإيمان الكامل حيث قالوا: " كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ " بعونه وتأييده, ونصره, فثبتوا, وصبروا لقتال عدوهم جالوت وجنوده.
وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَسورة البقرة الآية رقم 250
" وَقَتَلَ دَاوُدُ " صلى الله عليه وسلم " جَالُوتَ " وحصل بذلك الفتح والنصر على عدوهم.
" وَآتَاهُ اللَّهُ " أي: داود " الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ " النبوة والعلوم النافعة وآتاه الله الحكمة وفصل الخطاب.
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَسورة البقرة الآية رقم 251
ثم بين تعالى, فائدة الجهاد فقال: " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ " باستيلاء الكفرة والفجار, وأهل الشر والفساد.
" وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ " حيث لطف بالمؤمنين, ودافع عنهم, وعن دينهم, بمل شرعه وبما قدره
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَسورة البقرة الآية رقم 252
فلما بين هذه القصة قال لرسوله صلى الله عليه وسلم.
" تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ " .
ومن جملة الأدلة على رسالته, هذه القصة, حيث أخبر بها وحيا من الله, مطابقا للواقع.
وفي هذه القصة, عبر كثيرة للأمة.
منها: فضيلة الجهاد في سبيله, وفوائده, وثمراته, وأنه السبب الوحيد في حفظ الدين, وحفظ الأوطان, وحفظ الأبدان والأموال.
وأن المجاهدين, ولو شقت عليهم الأمور, فإن عواقبهم حميدة, كما أن الناكلين, ولو استراحوا قليلا, فإنهم سيتعبون طويلا.
ومنها: الانتداب لرياسة من فيه كفاءة, وأن الكفاءة ترجع إلى أمرين.
إلى العلم الذي هو علم السياسة والتدبير.
وإلى القوة التي ينفذ بها الحق.
وأن من اجتمع فيه الأمران, فهو أحق من غيره.
ومنها الاستدلال بهذه القصة, على ما قاله العلماء, أنه ينبغي للأمير للجيوش, أن يتفقدها عند فصولها, فيمنع من لا يصلح للقتال, من رجال وخيل وركاب, لضعفه, أو ضعف صبره, أو لتخذيله, أو خوف الضرر بصحبته.
فإن هذا القسم ضرر محض على الناس.
ومنها: أنه ينبغي عند حضور اليأس, تقوية المجاهدين, وتشجيعهم, وحثهم على القوة الإيمانية, والاتكال الكامل على الله, والاعتماد عليه, وسؤال الله التثبيت, والإعانة على الصبر والنصر على الأعداء.
ومنها: أن العزم على القتال والجهاد, غير حقيقته.
فقد يعزم الإنسان, ولكن عند حضوره, تنحل عزيمته ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
" أسألك الثبات في الأمر, والعزيمة على الرشد " .
فهؤلاء الذين عزموا على القتال, وأتوا بكلام يدل على العزم المصمم, لما جاء الوقت, نكص أكثرهم.
ويشبه هذا قوله صلى الله عليه وسلم " وأسألك الرضا بعد القضاء " .
لأن الرضا بعد وقوع القضاء المكروه للنفوس, هو الرضا الحقيقي.
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُسورة البقرة الآية رقم 253
يخبر الباري أنه فاوت بين الرسل في الفضائل الجليلة, والتخصيصات الجميلة, بحسب ما من الله به عليهم, وقاموا به من الإيمان الكامل; واليقين الراسخ, والأخلاق العالية, والآداب السامية, والدعوة, والتعليم والنفع العميم: فمنهم: من اتخذه خليلا, ومنهم: من كلمه تكليما, ومنهم: من رفعه فوق الخلائق درجات.
وجميعهم لا سبيل لأحد من البشر, إلى الوصول, لفضلهم الشامخ.
وخص عيسى بن مريم, أنه آتاه البينات الدالة على أنه رسول الله حقا, وعبده صدقا, وأن ما جاء به عن عند الله كله حق.
فجعله يبرئ الأكمة والأبرص; ويحيي الموتى بإذن الله وكلم الناس في المهد صبيا, وأيده بروح القدس, أي بروح الإيمان.
فجعل روحانيته فائقة روحانية غيره, فحصل له بذلك, القوة والتأييد, وإن كان أصل التأييد بهذه الروح عاما لكل مؤمن, بحسب إيمانه كما قال " وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ " لكن ما لعيسى أعظم, مما لغيره, لهذا خصه الله بالذكر.
وقيل: إن روح القدس - هنا - جبريل, أيده الله بإعانته ومؤازرته لكن المعنى الأصح, هو الأول.
ولما أخبر عن كمال الرسل, وما أعطاهم من الفضل والخصائص, وأن دينهم واحد, ودعوتهم إلى الخير واحدة, كان موجب ذلك ومقتضاه, أن تجتمع الأمم على تصديقهم, والانقياد لهم, لما آتاهم من البينات التي على مثلها, يؤمن البشر.
لكن أكثرهم, انحرفوا عن الصراط المستقيم, ووقع الاختلاف بين الأمم.
فمنهم من آمن; ومنهم من كفر.
ووقع لأجل ذلك; الاقتتال الذي; هو موجب الاختلاف والتعادي.
ولو شاء الله لجمعهم على الهدى; فما اختلفوا.
ولو شاء الله أيضا - بعدما وقع الاختلاف الموجب للاقتتال - ما اقتتلوا.
ولكن حكمته; اقتضت جريان الأمور على هذا النظام بحسب الأسباب.
ففي هذه الآية أكبر شاهد على أنه تعالى, يتصرف في جميع الأسباب لمسبباتها.
وأنه إن شاء أبقاها, وإن شاء منعها.
وكل ذلك تبع لحكمته وحده, فإنه فعال لما يريد.
فليس لإرادته ومشيئته, ممانع ولا معارض ولا معاون.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَسورة البقرة الآية رقم 254
يحث الله المؤمنين على النفقات, في جميع طرق الخير.
لأن حذف المعمول, يفيد التعميم.
ويذكرهم نعمته عليهم, بأنه هو الذي رزقهم, ونوع عليهم النعم.
وأنه لم يأمرهم بإخراج جميع ما في أيديهم, بل أتى بـ " من " الدالة على التبعيض.
فهذا مما يدعوهم إلى الإنفاق.
ومما يدعوهم أيضا إخبارهم أن هذه النفقات, مدخرة عند الله, في يوم لا تفيد فيه المعاوضات بالبيع ونحوه, ولا التبرعات, ولا الشفاعات.
فكل أحد يقول: ما قدمت لحياتي.
فتنقطع الأسباب كلها, إلا الأسباب المتعلقة بطاعة الله والإيمان به, يوم لا ينفع مال ولا بنون, إلا من أتى الله بقلب سليم.
" وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ " .
" وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا " .
ثم قال تعالى: " وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ " وذلك لأن الله خلقهم لعبادته, ورزقهم وعافاهم, ليستعينوا بذلك على طاعته.
فخرجوا عما خلقهم الله له, وأشركوا بالله, ما لم ينزل به سلطانا.
واستعانوا بنعمه, على الكفر والفسوق والعصيان.
فلم يبقوا للعدل موضعا, فلهذا حصر الظلم المطلق فيهم.
اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُسورة البقرة الآية رقم 255
أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية أعظم آيات القرآن, لما احتوت عليه من معاني التوحيد والعظمة, وسعة الصفات للباري تعالى.
فأخبر أنه " اللَّهِ " الذي له جميع معاني الألوهية, وأنه لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو.
فألوهية غيره, وعبادة غيره, باطلة.
وأنه " الْحَيُّ " الذي له جميع معاني الحياة الكاملة, من السمع, والبصر, والقدرة, والإرادة وغيرها, والصفات الذاتية.
كما أن " الْقَيُّومُ " تدخل فيه جميع صفات الأفعال, لأنه القيوم الذي قام بنفسه, واستغنى عن جميع مخلوقاته, وقام بجميع الموجوات, فأوجدها وأبقاها, وأمدها بجميع ما تحتاج إليه في وجودها وبقائها.
ومن كمال حياته وقيوميته, أنه " لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ " أي: نعاس " وَلَا نَوْمٌ " .
لأن السنة والنوم, إنما يعرضان للمخلوق, الذي يعتريه الضعف, والعجز, والانحلال.
ولا يعرضان, لذي العظمة, والكبرياء, والجلال.
وأخبر أنه مالك جميع ما في السماوات والأرض.
فكلهم عبيد لله مماليك, لا يخرج أحد منهم عن هذا الطور.
" إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا " .
فهو المالك لجميع الممالك, وهو الذي له صفات الملك والتصرف, والسلطان, والكبرياء.
ومن تمام ملكه أنه لا " يَشْفَعُ عِنْدَهُ " أحد " إِلَّا بِإِذْنِهِ " .
فكل الوجهاء والشفعاء, عبيد له مماليك, لا يقدمون على شفاعة حتى يأذن لهم.
" قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " .
والله لا يأذن لأحد أن يشفع إلا فيمن ارتضى, ولا يرتضي إلا توحيده, واتباع رسله.
فمن لم يتصف بهذا, فليس له في الشفاعة نصيب.
ثم أخبر عن علمه الواسع المحيط, وأنه يعلم ما بين أيدي الخلائق, من الأمور المستقبلة, التي لا نهاية لها " وَمَا خَلْفَهُمْ " من الأمورالماضية, التي لا حد لها.
وأنه لا تخفى عليه خافية " يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ " .
وأن الخلق لا يحيط أحد بشيء من علم الله ومعلوماته " إِلَّا بِمَا شَاءَ " منها.
وهو ما أطلعهم عليه من الأمور الشرعية والقدرية, وهو جزء يسير جدا مضمحل في علوم الباري ومعلوماته, كما قال أعلم الخلق به, وهم الرسل والملائكة " سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا " .
ثم أخبر عن عظمته وجلاله, وأن كرسيه, وسع السماوات والأرض, وأنه قد حفظهما ومن فيهما من العوالم, بالأسباب والنظامات, التي جعلها الله في المخلوقات.
ومع ذلك, فلا يؤوده, أي: يثقله حفظهما, لكمال عظمته, واقتداره, وسعة حكمته في أحكامه.
" وَهُوَ الْعَلِيُّ " بذاته, على جميع مخلوقاته, وهو العلي بعظمة صفاته.
وهو العلي الذي قهر المخلوقات, ودانت له الموجودات, وخضعت له الصعاب, وذلت له الرقاب.
" الْعَظِيمِ " الجامع, لجميع صفات العظمة والكبرياء, والمجد والبهاء, الذي تحبه القلوب, وتعظمه الأرواح, ويعرف العارفون أن عظمة كل شيء, وإن جلت عن الصفة, فإنها مضمحلة في جاب عظمة العلي العظيم.
فآية, احتوت على هذه المعاني التي هي أجل المعاني, يحق أن تكون أعظم آيات القرآن, ويحق لمن قرأها, متدبرا متفهما, أن يمتلئ قلبه من اليقين والعرفان والإيمان, وأن يكون محفوظا بذلك, من شرور الشيطان.
لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 256
هذا بيان لكمال هذا الدين الإسلامي, وأنه - لكمال براهينه, واتضاح آياته, وكونه هو دين العقل والعلم, ودين الفطرة والحكمة, ودين الصلاح والإصلاح, ودين الحق والرشد, فلكماله وقبول الفطر له - لا يحتاج إلى الإكراه عليه.
لأن الإكراه, إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب, ويتنافى مع الحقيقة والحق, أو لما تخفى براهينه وآياته.
وإلا فمن جاءه هذا الدين, ورده ولم يقبله, فإنه لعناده.
فإنه قد تبين الرشد من الغي, فلم يبق لأحد عذر ولا حجة, إذا رده ولم يقبله.
ولا منافاة بين هذا المعنى, وبين الآيات الكثيرة الموجبة للجهاد.
فإن الله أمر بالقتال, ليكون الدين كله لله, ولدفع اعتداء المعتدين على الدين.
وأجمع المسلمون على أن الجهاد, ماض مع البر والفاجر, وأنه من الفروض المستمرة, الجهاد القولي الفعلي.
فمن ظن من المفسرين أن هذه الآية, تنافي آيات الجهاد, فجزم بأنها منسوخة - فقوله ضعيف, لفظا ومعنى, كما هو واضح بين, لمن تدبر الآية الكريمة, كما نبهنا عليه.
ثم ذكر الله انقسام الناس إلى قسمين: قسم آمن بالله وحده لا شريك له, وكفر بالطاغوت - وهو كل ما ينافي الإيمان بالله من الشرك وغيره - فهذا قد استمسك بالعروة الوثقى, التي لا انفصام لها, بل هو مستقيم على الدين الصحيح, حتى يصل به إلى الله; وإلى دار كرامته.
ويؤخذ القسم الثاني, من مفهوم الآية, أن من لم يؤمن بالله, بل كفر به, وآمن بالطاغوت, فإنه هالك هلاكا أبديا, ومعذب عذابا سرمديا.
وقوله: " وَاللَّهُ سَمِيعٌ " أي: لجميع الأصوات, باختلاف اللغات, على تفنن الحاجات, وسميع لدعاء الداعين, وخضوع المتضرعين.
" عَلِيمٌ " بما أكنته الصدور, وما خفي من خفايا الأمور.
فيجازي كل أحد, بحسب ما يعلمه, من نياته وعمله.
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَسورة البقرة الآية رقم 257
هذه الآية مترتبة على الآية التي قبلها.
فالسابقة, هي الأساس, وهذه هي الثمرة.
فأخبر تعالى, أن الذين آمنوا بالله, وصدقوا إيمانهم, بالقيام بواجبات الإيمان, وترك كل ما ينافيه, أنه وليهم, يتولاهم بولايته الخاصة, ويتولى تربيتهم, فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر والمعاصي والغفلة والإعراض, إلى نور العلم واليقين والإيمان, والطاعة والإقبال الكامل على ربهم.
وينور قلوبهم, بما يقذفه فيها من نور الوحي والإيمان, وييسرهم لليسرى, ويجنبهم العسرى.
وأما الذين كفروا, فإنهم لما تولوا غير وليهم, ولاهم الله ما تولوا لأنفسهم, وخذلهم, ووكلهم إلى رعاية من تولاهم, ممن ليس عنده نفع ولا ضر.
فأضلوهم, وأشقوهم, وحرموهم هداية العلم النافع, والعمل الصالح.
وحرموهم السعادة, وصارت النار مثواهم, خالدين فيها مخلدين.
اللهم تولنا فيمن توليت.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَسورة البقرة الآية رقم 258
يقص الله علينا من أنباء الرسل والسالفين, ما به تتبين الحقائق, وتقوم البراهين المتنوعة على التوحيد.
فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم, حيث حاج هذا الملك الجبار, وهو نمرود البابلي, المعطل المنكر لرب العالمين, وانتدب لمقاومة إبراهيم الخليل ومحاجته في هذا الأمر, الذي لا يقبل شكا, ولا إشكالا, ولا ريبا, وهو توحيد الله وربوبيته, الذي هو أجلى الأمور وأوضحها.
ولكن هذا الجبار, غره ملكه وأطغاه, حتى وصلت به الحال, إلى أن نفاه, وحاج إبراهيم الرسول العظيم, الذي أعطاه الله من العلم واليقين, ما لم يعط أحدا من الرسل, سوى محمد صلى الله عليه وسلم.
فقال إبراهيم مناظرا له " رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ " أي: هو المنفرد بالخلق والتدبير, والإحياء والإماتة.
فذكر من هذا الجنس أظهرها, وهو الإحياء والإماتة.
فقال ذلك الجبار مباهتا " أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ " .
وعنى بذلك أني أقتل من أردت قتله, وأستبقي من أردت استبقاءه.
ومن المعلوم أن هذا تمويه وتزوير, وحيدة عن المقصود.
وأن المقصود, أن الله تعالى هو الذي تفرد بإيجاد الحياة في المعدومات, وردها على الأموات.
وأنه هو الذي يميت العباد والحيوانات بآجالها, بأسباب ربطها وبغير أسباب.
فلما رآه الخليل مموها تمويها, ربما راج على الهمج الرعاع.
قال إبراهيم - ملزما له بتصديق قوله إن كان كما يزعم: " فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ " أي: وقف, وانقطعت جحته, واضمحلت شبهته.
وليس هذا من الخليل, انتقالا من دليل إلى آخر.
وإنما هو إلزام لنمرود, بطرد دليله إن كان صادقا.
وأتى بهذا الذي لا يقبل الترويج والتزوير والتمويه.
فجميع الأدلة, السمعية والعقلية, والفطرية, قد قامت شاهدة بتوحيد الله, معترفة بانفراده بالخلق والتدبير.
وأن من هذا شأنه, لا يستحق العبادة إلا هو.
وجميع الرسل, متفقون على هذا الأصل العظيم.
ولم ينكره إلا معاند مكابر, مماثل لهذا الجبار العنيد.
فهذا من أدلة التوحيد.
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة البقرة الآية رقم 259
ثم ذكر أدلة كمال القدرة والبعث والجزاء فقال: " أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ " الآية.
هذان دليلان عظيمان, محسوسان في الدنيا قبل الآخرة - على البعث والجزاء.
واحد أجراه الله على يد رجل شاك في البعث على الصحيح, كما تدل عليه الآية الكريمة.
والآخر, على يد خليله إبراهيم.
كما أجرى دليل التوحيد السابق على يده.
فهذا الرجل, مر على قرية قد دمرت تدمرا وخوت على عروشها.
قد مات أهلها وخربت عمارتها, فقال - على وجه الشك والاستبعاد: " أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا " ؟ أي: ذلك بعيد, وهي في هذه الحال.
يعني: وغيرها مثلها, بحسب ما قام بقلبه تلك الساعة.
فأراد الله رحمته ورحمة الناس, حيث أماته الله مائة عام.
وكان معه حمار, فأماته معه.
ومعه طعام وشراب, فأبقاهما الله بحالهما كل هذه المدد الطويلة.
فلما مضت الأعوام المائة بعثه الله فقال: " كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ " وذلك بحسب ما ظنه.
فقال الله " بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ " .
والظاهر أن هذه المجاوبة على يد بعض الأنبياء الكرام.
ومن تمام رحمة الله به وبالناس, أنه أراه الآية عيانا, ليقتنع بها.
فبعد ما عرف أنه ميت قد أحياه الله, قيل له: " فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ " أي: لم يتغير في هذه المدد الطويلة.
وذلك من آيات قدرة الله, فإن الطعام والشراب - خصوصا ما ذكره المفسرون: أنه فاكهة وعصير - لا يلبث أن يتغير, وهذا قد حفظه الله, مائة عام وقيل له: " وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ " , فإذا هو قد تمزق وتفرق, وصار عظاما نخرة.
" وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا " أي: نرفع بعضها إلى بعض, ونصل بعضها ببعض, بعد ما تفرقت وتمزقت.
" ثُمَّ نَكْسُوهَا " بعد الالتئام " لَحْمًا " ثم, نعيد فيه الحياة.
" فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ " رأى عين لا يقبل الريب بوجه من الوجوه.
" قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " .
فاعترف بقدرة الله على كل شيء وصار آية للناس, لأنهم قد عرفوا موته وموت حماره, وعرفوا قضيته, ثم شاهدوا هذه الآية الكبرى.
هذا هو الصواب في هذا الرجل.
وأما قول كثير من المفسرين: إن هذا الرجل, مؤمن, أو نبي من الأنبياء, إما عزيز أو غيره, وأن قوله " أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا " , يعني كيف تعمر هذه القرية, بعد أن كانت خرابا, وأن الله أماته, ليريه ما يعيد لهذه القرية من عمارتها بالخلق, وأنها عمرت في هذه المدة, وتراجع الناس إليها وصارت عامرة, بعد أن كانت دامرة - فهذا لا يدل عليه اللفظ بل ينافيه, ولا يدل عليه المعنى.
فأي آية وبرهان, برجوع البلدان الدامرة إلى العمارة, وهذه لم تزل تشاهد, تعمر قرى ومساكن, وتخرب أخرى.
وإنما الآية العظيمة, في إحيائه بعد موته, وإحياء حماره, وإبقاء طعامه وشرابه, لم يتعفن ولم يتغير.
ثم قوله " فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ " صريح في أنه لم يتبين له إلا بعد ما شاهد هذه الحال الدالة على كمال قدرته عيانا.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌسورة البقرة الآية رقم 260
وأما البرهان الآخر, فإن إبراهيم قال طالبا من الله, أن يريه كيف يحيي الموتى: فقال الله له: " أَوَلَمْ تُؤْمِنْ " ليزيل الشبهة عن خليله.
" قَالَ " إبراهيم: " بَلَى " يا رب, قد آمنت أنك على كل شيء قدير, وأنك تحيي الموتى, وتجازي العباد.
ولكن أريد أن يطمئن قلبي, وأصل إلى درجة عين اليقين.
فأجاب الله دعوته, كرامة لا, ورحمة بالعباد.
" قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ " ولم يبين أي الطيور هي.
فالآية حاصلة بأي نوع منها, وهو المقصود.
" فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ " ضمهن, واذبحهن, ومزقهن.
" ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " .
ففعل ذلك, وفرق أجزاءهن على الجبال, التي حوله, ودعاهن بأسمائهن, فأقبلن إليه, أي: سريعات, لأن السعي: السرعة.
وليس المراد, أنهن جئن على قوائمهن, وإنما جئن طائرات, على أكمل ما يكون من الحياة.
وخص الطيور بذلك, لأن إحياءهن أكمل وأوضح من غيرهن.
وأيضا أزال في هذا كل وهم, ربما يعرض للنفوس المبطلة.
فجعلهن متعددات أربعة, ومزقهن جميعا, وجعلهن على رءوس الجبال ليكون ذلك ظاهرا علنا, يشاهد من قرب ومن بعد, وأنه نحاهن عنه كثيرا, لئلا يظن أن يكون عاملا حيلة من الحيل.
وأيضا أمره أن يدعوهن, فجئن مسرعات.
فصارت هذه الآية, أكبر برهان على كمال عزة الله وحكمته.
وفيه تنبيه على أن البعث فيه يظهر للعباد كمال عزة الله وحكمته وعظمته وسعة سلطانه, وتمام عدله وفضله.
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 261
هذا حث عظيم من الله لعباده على إنفاق أموالهم في سبيله, وهو طريقه الموصل إليه.
فيدخل في هذا, إنفاقه في ترقية العلوم النافعة, وفي الاستعداد للجهاد في سبيله, وفي تجهز المجاهدين وتجهيزهم, وفي جميع المشاريع الخيرية النافعة للمسلمين.
ويلي ذلك, الإنفاق على المحتاجين, والفقراء والمساكين.
وقد يجتمع الأمران, فيكون في النفقة دفع الحاجات, والإعانة على الخير والطاعات.
فهذه النفقات مضاعفة, هذه المضاعفة بسبعمائة إلى أضعاف أكثر من ذلك.
ولهذا قال " وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ " وذلك بحسب ما يقوم بقلب المنفق, من الإيمان, والإخلاص التام, وفي ثمرات نفقته ونفعها.
فإن بعض طرق الخيرات, يترتب على الإنفاق فيها, منافع متسلسلة, ومصالح متنوعة, فكان الجزاء من جنس العمل.
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَسورة البقرة الآية رقم 262
ثم أيضا, ذكر ثوابا آخر للمنفقين أموالهم في سبيله, نفقة صادرة, مستوفية لشروطها, منتفية موانعها.
فلا يتبعون المنفق عليه منا منهم عليه, وتعدادا للنعم, وأذية له, قولية, أو فعلية.
فهؤلاء " لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ " بحسب ما يعلمه منه, وبحسب نفقاتهم ونفعها, وبفضله الذي لا تناله, ولا تصل إليه: صدقاتهم.
" وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " فنفى عنهم المكروه الماضي, بنفي الحزن, والمستقبل بنفي الخوف عليهم, فقد حصل لهم المحبوب, واندفع عنهم المكروه.
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 263
ذكر الله أربع مراتب للإحسان: المرتبة العليا, النفقة الصادرة عن نية صالحة, ولم يتبعها المنفق منا ولا أذى.
ثم يليها, قول المعروف وهو: الإحسان القولي بجميع وجوهه, الذي فيه سرور المسلم, والاعتذار من السائل إذا لم يوافق عنده شيئا, وغير ذلك من أقوال المعروف.
والثالثة: الإحسان بالعفو والمغفرة, عمن أساء إليك, بقول أو فعل.
وهذان أفضل من الرابعة, وخير منها, وهي التي يتبعها المتصدق الأذى للمعطي, لأنه كدر إحسانه وفعل خيرا وشرا.
فالخير المحض - وإن كان مفضولا - خير من الخير الذي يخالطه شر, وإن كان فاضلا, وفي هذا, التحذير العظيم لمن يؤذي من تصدق عليه, كما يفعله أهل اللؤم والحمق والجهل.
" وَاللَّهُ " تعالى " غَنِيٌّ " عن صدقاتهم, وعن جميع عباده.
" حَلِيمٌ " مع كمال غناه, وسعة عطاياه, يحلم عن العاصين, ولا يعاجلهم بالعقوبة.
بل يعافيهم, ويرزقهم, ويدر عليهم خيره, وهم مبارزون له بالمعاصي.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَسورة البقرة الآية رقم 264
ثم نهى أشد النهي, عن المن والأذى, وضرب لذلك مثلا فقال: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى " .
الآية ضرب الله في هذه الآيات, ثلاثة أمثلة: للمنفق ابتغاء وجهه, ولم يتبع نفقته منا ولا أذى.
ولمن أتبعها منا وأذى, وللمرائي.
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌسورة البقرة الآية رقم 265
فأما الأول, فإنه لما كانت نفقته مقبولة مضاعفة, لصدورها عن الإيمان والإخلاص التام " ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ " أي: ينفقون, وهم ثابتون على وجه السماحة والصدق فمثل هذا العمل " كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ " وهو المكان المرتفع, لأنه يتبين للرياح والشمس, والماء فيها غزير.
فإن لم يصبها ذلك الوابل الغزير, حصل طل كاف, لطيب منبتها, وحسن أرضها, وحصول جميع الأسباب الموفرة لنموها وازدهارها وإثمارها.
ولهذا " فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ " أي متضاعفا.
وهذه الجنة التي على هذا الوصف, هي أعلى ما يطلبه الناس, فهذا العمل الفاضل بأعلى المنازل.
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَسورة البقرة الآية رقم 266
وأما من أنفق لله, ثم أتبع نفقته منا وأذى, أو عمل عملا, فأتى بمبطل لذلك العمل, فهذا مثله مثال صاحب هذه الجنة, لكن سلط عليها " إِعْصَارٌ " وهو الريح الشديدة " فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ " وله ذرية ضعفاء, وهو ضعيف قد أصابه الكبر.
فهذه الحال من أفظع الأحوال, ولهذا صدر هذا المثل بقوله: " أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ " إلى آخرها بالاستفهام المتقرر عند المخاطبين فظاعته.
فإن تلفها دفعة واحدة, بعد زهاء أشجارها, وإيناع ثمارها, مصيبة كبرى.
ثم حصول هذه الفاجعة - وصاحبها كبير قد ضعف عن العمل, وله ذرية ضعفاء, لا مساعدة منهم له, ومؤنتهم عليه - فاجعة أخرى, فصار صاحب هذا المثل, الذي عمل لله, ثم أبطل عمله بمناف له, يشبه حال صاحب الجنة, التي جرى عليها ما جرى, حين اشتدت ضرورته إليها.
المثل الثالث: الذي يرائي الناس, وليس معه إيمان بالله, ولا احتساب لثوابه, حيث شبه قلبه بالصفوان, وهو: الحجر الأملس.
عليه تراب يظن الرائي, أنه إذا أصابه المطر, أنبت كما تنبت الأراضي الطيبة.
ولكنه كالحجر, الذي أصابه الوابل الشديد, فأذهب ما عليه من التراب, وتركه صلدا.
وهذا مثل مطابق لقلب المرائي, الذي ليس فيه إيمان, بل هو قاس لا يلين ولا يخشع.
فهذا, أعماله ونفقاته, لا أصل لها, تؤسس عليه, ولا غاية لها, تنتهي إليه, بل ما عمله, فهو باطل, لعدم شرطه.
والذي قبله بطل بعد وجود الشرط, لوجود المانع.
والأول, مقبول مضاعف, لوجود شرطه الذي هو الإيمان والإخلاص والثبات, وانتفاء الموانع المفسدة.
وهذه الأمثال الثلاثة, تنطبق على جميع العاملين.
فليزن العبد نفسه وغيره, بهذه الموازين العادلة, والأمثال المطابقة.
" وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ " .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌسورة البقرة الآية رقم 267
يحث الباري عباده, على الإنفاق مما كسبوا, في التجارات, ومما أخرج لهم من الأرض, من الحبوب والثمار.
وهذا يشمل زكاة النقدين, والعروض كلها, المعدة للبيع والشراء, والخارج من الأرض, من الحبوب والثمار.
ويدخل في عمومها, الفرض والنفل.
وأمر تعالى أن يقصدوا الطيب منها, ولا يقصدوا الخبيث, وهو الرديء الدون, يجعلونه لله.
ولو بذله لهم من لهم حق عليه, لم يرتضوه, ولم يقبلوه, إلا على وجه المغاضاة والإغماض.
فالواجب, إخراج الوسط من هذه الأشياء, والكمال: إخراج العالي, والممنوع إخراج الرديء فإن هذا لا يجزئ عن الواجب, ولا يحصل فيه الثواب التام في المندوب.
" وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ " فهو غني عن جميع المخلوقين, وهو الغني عن نفقات المنفقين, وعن طاعات الطائعين.
وإنما أمرهم بها, وحثهم عليها, لنفعهم, ومحض فضله وكرمه عليهم.
ومع كمال غناه, وسعة عطاياه, فهو الحميد فيما يشرعه لعباده من الأحكام, الموصلة لهم إلى دار السلام.
وحميد في أفعاله, التي لا تخرج عن الفضل, والعدل والحكمة.
وحميد الأوصاف, لأن أوصافه كلها محاسن وكمالات, لا يبلغ العباد كنهها, ولا يدركون وصفها.
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 268
فلما حثهم على الإنفاق النافع, ونهاهم عن الإمساك الضار, بين لهم أنهم بين داعيين: داعي الرحمن, يدعوهم إلى الخير, ويعدهم عليه الخير, والفضل والثواب العاجل والآجل, وإخلاف ما أنفقوا.
وداعي الشيطان, الذي يحثهم على الإمساك ويخوفهم, إن أنفقوا أن يفتقروا.
فمن كان مجيبا لداعي الرحمن, وأنفق مما رزقه الله, فليبشر بمغفرة الذنوب, وحصول كل مطلوب.
ومن كان مجيبا لداعي الشيطان, فإنه إنما يدعو حزبه, ليكونوا من أصحاب السعير.
فليختر العبد أي الأمرين أليق به.
وختم الآية بأنه " وَاسِعٌ عَلِيمٌ " أي واسع الصفات كثير الهبات عليم بمن يستحق المضاعفة من العاملين وعليم بمن هو أهل فيوفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات.
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِسورة البقرة الآية رقم 269
لما ذكر أحوال المنفقين للأموال, وأن الله أعطاهم, ومن عليهم بالأموال التي يدركون بها النفقات في الطرق الخيرية, وينالون بها المقامات السنية, ذكر ما هو أفضل من ذلك, وهو أنه يعطي الحكمة من يشاء من عباده, ومن أراد بهم خيرا من خلقه.
والحكمة هي: العلوم النافعة, والمعارف الصائبة, والعقول المسددة, والألباب الرزينة, وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال.
وهذا أفضل العطايا, وأجل الهبات, ولهذا قال: " وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا " لأنه خرج من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى, ومن حمق الانحراف في الأقوال والأفعال, إلى إصابة الصواب فيها, وحصول السداد, ولأنه كمل نفسه بهذا الخير العظيم, واستعد لنفع الخلق أعظم نفع, في دينهم ودنياهم.
وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة, التي هي: وضع الأشياء في مواضعها.
وتنزيل الأمور منازلها, والإقدام في محل الإقدام والإحجام في موضع الإحجام.
ولكن ما يتذكر هذا الأمر العظيم, وما يعرف قدر هذا العطاء الجسيم.
" إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ " وهم: أهل العقول الوافية, والأحلام الكاملة, فهم الذين يعرفون النافع فيعملونه, والضار فيتركونه.
وهذان الأمران, وهما بذل النفقات المالية, وبذل, الحكمة العلمية, أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله, وأعلى ما وصلوا به إلى أجل الكرامات.
وهما اللذان ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق, ورجل آتاه الله الحكمه فهو يعلمها الناس " .
وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍسورة البقرة الآية رقم 270
يخبر تعالى, أنه مهما أنفق المنفقون أو تصدق المتصدقون, أو نذر الناذرون, فإن الله يعلم ذلك.
ومضمون الإخبار بعلمه, يدل على الجزاء, وأن الله لا يضيع عنده مثقال ذرة.
ويعلم ما صدرت عنه, من نيات صالحة, أو سيئة.
وأن الظالمين الذين يمنعون ما أوجب الله عليهم, أو يقتحمون ما حرم عليهم, ليس من دونهم أنصار, ينصرونهم ويمنعونهم.
وأنه لا بد أن تقع بهم العقوبات.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10

شاركَ في تقييمِ موقعنا على Google
facebook