الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10
فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 181
ولما كان الموصي قد يمتنع من الوصية, لما يتوهمه أن من بعده, قد يبدل ما وصى به قال تعالى.
" فَمَنْ بَدَّلَهُ " أي: أي الإيصاء للمذكورين أو غيرهم " بَعْدَمَا سَمِعَهُ " أي: بعد ما عقله, وعرف طرقه وتنفيذه.
" فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ " وإلا فالموصي وقع أجره على الله, وإنما الإثم على المبدل المغير.
" إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ " يسمع سائر الأصوات, ومنه سماعه لمقالة الموصي ووصيته.
فينبغي له أن يراقب من يسمعه ويراه, وأن لا يجور في وصيته.
" عَلِيمٌ " بنيته, وعليم بعمل الموصى إليه.
فإذا اجتهد الموصي, وعلم الله من نيته ذلك, أثابه ولو أخطأ.
وفيه, التحذير للموصى إليه من التبديل.
فإن الله عليم به, مطلع على فعله, فليحذر من الله.
هذا حكم الوصية العادلة.
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة البقرة الآية رقم 182
وأما الوصية التي فيها حيف وجنف, وإثم.
فينبغي لمن حضر الموصي وقت الوصية بها, أن ينصحه بما هو الأحسن والأعدل, وأن ينهاه عن الجور.
والجنف, وهو: الميل بها عن خطأ, من غير تعمد, والإثم: وهو التعمد لذلك.
فإن لم يفعل ذلك, فينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم, ويتوصل إلى العدل بينهم على وجه التراضي والمصالحة, ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم فهذا قد فعل معروفا عظيما, وليس عليهم, كما على مبدل الوصية الجائزة ولهذا قال: " إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ " أي: يغفر جميع الزلات, ويصفح عن التبعات لمن تاب إليه, ومنه مغفرته لمن غض من نفسه, وترك بعض حقه لأخيه, لأن من سامح, سامحه الله.
غفور لميتهم الجائر في وصيته, إذا احتسبوا بمسامحة بعضهم بعضا لأجل براءة ذمته.
رحيم بعباده, حيث شرع لهم كل أمر به يتراحمون ويتعاطفون.
فدلت هذه الآيات, على الحث على الوصية, وعلى بيان من هي له, وعلى وعيد المبدل للوصية العادلة, والترغيب في الإصلاح في الوصية الجائرة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَسورة البقرة الآية رقم 183
يخبر تعالى, بما من الله به على عباده, بأنه فرض عليهم الصيام, كما فرضه على الأمم السابقة, لأنه من الشرائع والأوامر, التي هي مصلحة للخلق في كل زمان.
وفيه تنشيط لهذه الأمة, بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال, والمسارعة إلى صالح الخصال, وأنه ليس من الأمور الثقيلة, التي اختصصتم بها.
ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " .
فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى, لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.
فمما اشتمل عليه من التقوى, أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها, التي تميل إليها نفسه, متقربا بذلك إلى الله, راجيا بتركها, ثوابه.
فهذا من التقوى.
ومنها أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى, فيترك ما تهوى نفسه, مع قدرته عليه, لعلمه باطلاع الله عليه.
ومنها أن الصيام يضيق مجاري الشيطان, فإنه يجري من ابن آدم, مجرى الدم, فبالصيام, يضعف نفوذه, وتقل منه المعاصي.
ومنها: أن الصائم في الغالب, تكثر طاعته, والطاعات من خصال التقوى.
ومنها أن الغني إذا ذاق ألم الجوع, أوجب له ذلك, مواساة الفقراء المعدمين, وهذا من خصال التقوى.
أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 184
ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام, أخبر أنه أيام معدودات, أي: قليلة في غاية السهولة.
ثم سهل تسهيلا آخر.
فقال " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ " وذلك للمشقة, في الغالب, رخص الله لهما, في الفطر.
ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن, أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض, وانقضى السفر, وحصلت الراحة.
وفي قوله " فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ " فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان, كاملا كان, أو ناقصا, وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة, عن أيام طويلة حارة كالعكس.
وقوله " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ " أي: يطيقون الصيام " فِدْيَةٌ " عن كل يوم يفطرونه " طَعَامُ مِسْكِينٍ " .
وهذا في ابتداء فرض الصيام, لما كانوا غير معتادين للصيام, وكان فرضه حتما, فيه مشقة عليهم, درجهم الرب الحكيم, بأسهل طريق.
وخير المطيق للصوم,, بين أن يصوم, وهو أفضل, أو يطعم.
ولهذا قال: " وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ " .
ثم بعد ذلك, جعل الصيام حتما على المطيق وغير المطيق, يفطر ويقضيه في أيام أخر.
وقيل " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ " أي يتكلفونه ويشق عليهم مشقة غير محتملة, كالشيخ الكبير, فدية عن كل يوم, طعام مسكين, وهذا هو الصحيح.
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَسورة البقرة الآية رقم 185
" شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ " أي: الصوم المفروض عليكم, هو شهر رمضان, الشهر العظيم, الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم.
وهو القرآن الكريم, المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية, وتبيين الحق بأوضح بيان, والفرقان بين الحق والباطل, والهدى والضلال, وأهل السعادة وأهل الشقاوة.
فحقيق بشهر, هذا فضله, وهذا إحسان الله عليكم فيه, أن يكون موسما للعباد ومفروضا فيه الصيام.
فلما قرره, وبين فضيلته, وحكمة الله تعالى في تخصيصه قال: " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ " هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر.
ولما كان النسخ للتخيير, بين الصيام والفداء خاصة, أعاد الرخصة للمريض والمسافر, لئلا يتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة فقال: " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ " أي: يريد الله تعالى, أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه, أعظم تيسير, ويسهلها أبلغ تسهيل.
ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله.
وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله, سهله تسهيلا آخر, إما بإسقاطه, أو تخفيفه بأنواع التخفيفات.
وهذه جملة لا يمكن تفصيلها, لأن تفاصيلها, جميع الشرعيات, ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات.
" وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ " وهذا - والله أعلم - لئلا يتوهم متوهم, أن صيام رمضان, يحصل المقصود منه ببعضه, دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته ويشكر الله تعالى عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعبادة, وبالتكبير عند انقضائه, ويدخل في ذلك, التكبير عند رؤية هلال شوال, إلى فراغ خطبة العيد.
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَسورة البقرة الآية رقم 186
هذا جواب سؤال سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فقالوا: يا رسول الله, أقريب ربنا فنناجيه, أم بعيد فنناديه؟ فنزل.
" وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ " لأنه تعالى, الرقيب الشهيد, المطلع على السر وأخفى, يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, فهو قريب أيضا من داعيه, بالإجابة.
ولهذا قال " أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ " .
والدعاء نوعان: دعاء عبادة, ودعاء مسألة.
والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه, وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة, والمعونة والتوفيق.
فمن دعا ربه بقلب حاضر, ودعاء مشروع, ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء, كأكل الحرام ونحوه, فإن الله قد وعده بالإجابة.
وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء, وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية, والإيمان به, الموجب للاستجابة.
فلهذا قال: " فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ " أي: يحصل لهم الرشد, الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة, ويزول عنهم البغي, المنافي للإيمان والأعمال الصالحة.
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَسورة البقرة الآية رقم 187
ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره, سبب لحصول العلم كما قال تعالى.
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا " .
وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 188
أي: ولا تأخذوا أموالكم أي: أموال غيركم.
أضافه إليهم, لأنه ينبعي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه, ويحترم ماله, كما يحترم ماله ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة.
ولما كان أكلها نوعين: نوعا بحق, ونوعا بباطل, وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل, قيده الله تعالى بذلك.
ويدخل بذلك, أكلها على وجه الغضب, والسرقة, والخيانة في وديعة أو عارية, أو نحو ذلك.
ويدخل فيه أيضا, أخذها على وجه المعاوضة, بمعاوضة محرمة, كعقود الربا, والقمار كلها, فإنها من أكل المال بالباطل, لأنه ليس في مقابلة عوض مباح.
ويدخل في ذلك أخذها, بسبب غش في البيع, والشراء, والإجارة, ونحوها.
ويدخل في ذلك, استعمال الأجرار, وأكل أجرتهم.
وكذلك أخذهم أجرة على عمل, لم يقوموا بواجبه.
ويدخل في ذلك, أخذ الأجرة على العبادات والقربات, التي لا تصح, حتى يقصد بها وجه الله تعالى.
ويدخل في ذلك, الأخذ من الزكوات والصدقات, والأوقاف, والوصايا, لمن ليس له حق منها, أو فوق حقه.
فكل هذا ونحوه, من أكل المال بالباطل, فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه.
حتى ولو حصل فيه النزاع والارتفاع إلى حاكم الشرع, وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة, غلبت حجة المحق, وحكم له الحاكم بذلك.
فإن حكم الحاكم, لا يبيح محرما, ولا يحلل حراما, إنما يحكم على نحو مما يسمع, وإلا فحقائق الأمور باقية.
فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة, ولا شبهة, ولا استراحة.
فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة, وحكم له بذلك, فإنه لا يحل له, ويكون آكلا لمال غيره, بالباطل والإثم, وهو عالم بذلك.
فيكون أبلغ في عقوبته, وأشد في نكاله.
وعلى هذا, فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه, لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى " وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا " ثم قال تعالى " أُحِلَّ لَكُمْ " إلى قوله " لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ " .
كان في أول فرض الصيام, يحرم على المسلمين, الأكل, والشرب, والجماع في الليل بعد النوم, فحصلت المشقة لبعضهم.
فخفف الله تعالى عنهم ذلك, وأباح في ليالي الصيام كلها, الأكل, والشرب, والجماع.
سواء نام أو لم ينم, لكونهم يختانون أنفسهم, بترك بعض ما أمروا به.
" فَتَابَ " الله " عَلَيْكُمْ " بأن وسع لكم أمرا كان - لولا توسعته - موجبا للإثم " وَعَفَا عَنْكُمْ " ما سلف من التخون.
" فَالْآنَ " بعد هذه الرخصة والسعة من الله " بَاشِرُوهُنَّ " وطئا وقبلة ولمسا وغير ذلك.
" وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ " أي: انووا في مباشرتكم لزوجاتكم, التقرب إلى الله تعالى والمقصود الأعظم من الوطء, وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه, وفرج زوجته, وحصول مقاصد النكاح.
ومما كتب الله لكم ليلة القدر, الموافقة لليالي صيام رمضان فلا ينبغي لكم, أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها, وتضيعوها.
فاللذة مدركة, وليلة القدر - إذا فاتت - لم تدرك.
" وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ " هذا غاية للأكل والشرب والجماع.
وفيه أنه إذا أكل ونحوه, شاكا في طلوع الفجر, فلا بأس عليه.
وفيه دليل على استحباب السحور, للأمر, وأنه يستحب تأخيره, أخذا من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد.
وفيه أيضا, دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر, وهو جنب من الجماع, قبل أن يغتسل, ويصح صيامه, لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر, أن يدركه الفجر وهو جنب, ولازم الحق حق.
" ثُمَّ " إذا طلع الفجر " أَتِمُّوا الصِّيَامَ " أي: الإمساك عن المفطرات " إِلَى اللَّيْلِ " وهو غروب الشمس.
ولما كان إباحة الوطء في ليالي الصيام, ليست إباحة عامة لكل أحد, فإن المعتكف لا يحل له ذلك, استثناه بقوله.
" وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ " أي: وأنتم متصفون بذلك.
ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف, وهو لزوم المسجد, لطاعة الله تعالى, وانقطاعا إليه وأن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد.
ويستفاد من تعريف المساجد, أنها المساجد المعروفة عندهم, وهي التي تقام فها الصلوات الخمس.
وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف.
تلك المذكورات - وهو تحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام, وتحريم الفطر على غير المحذور, وتحريم الوطء على المعتكف ونحو ذلك من المحرمات " حُدُودُ اللَّهِ " التي حدها لعباده, ونهاهم عنها فقال: " فَلَا تَقْرَبُوهَا " أبلغ من قوله " فلا تفعلوها " لأن القربان, يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه, والنهي عن وسائله الموصلة إليه.
والعبد مأمور بترك المحرمات, والبعد منها, غاية ما يمكنه, وترك كل سبب يدعو إليه.
وأما الأوامر فيقول الله فيها " تلك حدود الله فلا تعتدوها " فنهى عن مجاوزتها.
" كَذَلِكَ " أي: يبين الله لعباده الأحكام السابقة, أتم تبيين, وأوضحها لهم, أكمل إيضاح.
" يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ " فإنهم إذا بان لهم الحق, اتبعوه وإذا تبين لهم الباطل, اجتنبوه.
فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم, ولو علم تحريمه لم يفعله.
فإذا بين الله للناس آياته, لم يبق لهم عذر ولا حجة, فكان ذلك سببا للتقوى.
أي: ولا تأخذوا أموالكم أي: أموال غيركم.
أضافه إليهم, لأنه ينبعي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه, ويحترم ماله, كما يحترم ماله ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة.
ولما كان أكلها نوعين: نوعا بحق, ونوعا بباطل, وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل, قيده الله تعالى بذلك.
ويدخل بذلك, أكلها على وجه الغضب, والسرقة, والخيانة في وديعة أو عارية, أو نحو ذلك.
ويدخل فيه أيضا, أخذها على وجه المعاوضة, بمعاوضة محرمة, كعقود الربا, والقمار كلها, فإنها من أكل المال بالباطل, لأنه ليس في مقابلة عوض مباح.
ويدخل في ذلك أخذها, بسبب غش في البيع, والشراء, والإجارة, ونحوها.
ويدخل في ذلك, استعمال الأجرار, وأكل أجرتهم.
وكذلك أخذهم أجرة على عمل, لم يقوموا بواجبه.
ويدخل في ذلك, أخذ الأجرة على العبادات والقربات, التي لا تصح, حتى يقصد بها وجه الله تعالى.
ويدخل في ذلك, الأخذ من الزكوات والصدقات, والأوقاف, والوصايا, لمن ليس له حق منها, أو فوق حقه.
فكل هذا ونحوه, من أكل المال بالباطل, فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه.
حتى ولو حصل فيه النزاع والارتفاع إلى حاكم الشرع, وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة, غلبت حجة المحق, وحكم له الحاكم بذلك.
فإن حكم الحاكم, لا يبيح محرما, ولا يحلل حراما, إنما يحكم على نحو مما يسمع, وإلا فحقائق الأمور باقية.
فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة, ولا شبهة, ولا استراحة.
فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة, وحكم له بذلك, فإنه لا يحل له, ويكون آكلا لمال غيره, بالباطل والإثم, وهو عالم بذلك.
فيكون أبلغ في عقوبته, وأشد في نكاله.
وعلى هذا, فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه, لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى " وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا "
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَسورة البقرة الآية رقم 189
فقوله تعالى " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ " جمع - هلال - ما فائدتها وحكمتها, أو عن ذاتها.
" قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ " أي جعلها الله تعالى, بلطفه ورحمته, على هذا التدبير.
يبدو الهلال ضعيفا في أول الشهر, ثم يتزايد إلى نصفه, ثم يشرع في النقص إلى كماله, وهكذا, ليعرف الناس بذلك, مواقيت عباداتهم, من الصيام, وأوقات الزكاة, والكفارات, وأوقات الحج.
ولما كان الحج يقع في أشهر معلومات, ويستغرق أوقاتا كثيرة قال: " وَالْحَجِّ " وكذلك تعرف بذلك, أوقات الديون المؤجلات, ومدة الإجارات, ومدة العدد والحمل, وغير ذلك, مما هو من حاجات الخلق.
فجعله تعالى, حسابا, يعرفه كل أحد, من صغير, وكبير, وعالم, وجاهل.
فلو كان الحساب بالسنة الشمسية, لم يعرفه إلا النادر من الناس.
" وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا " وهذا كما كان الأنصار وغيرهم من العرب, إذا أحرموا, لم يدخلوا البيوت من أبوابها, تعبدا بذلك, وظنا أنه بر.
فأخبر تعالى, أنه ليس من البر, لأن الله تعالى, لم يشرعه لهم.
وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ولا رسوله, فهو متعبد ببدعة.
وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها لما فيه من السهولة عليهم, التي هي قاعدة من قواعد الشرع.
ويستفاد من إشارة الآية أنه ينبغي في كل أمر من الأمور, أن يأتيه الإنسان من الطريق السهل القريب, الذي قد جعل له موصلا.
فالآمر بالمعروف, والناهي عن المنكر, ينبغي أن ينظر في حالة المأمور, ويستعمل معه الرفق والسياسة, التي بها يحصل المقصود أو بعضه.
والمتعلم والمعلم, ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله, يحصل به مقصوده.
وهكذا كل من حاول أمرا من الأمور وأتاه من أبوابه, وثابر عليه, فلا بد أن يحصل له المقصود, بعون الملك المعبود.
" وَاتَّقُوا اللَّهَ " هذا هو البر, الذي أمر الله به, وهو لزوم تقواه على الدوام, بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, فإنه سبب للفلاح, الذي هو الفوز بالمطلوب, والنجاة من المرهوب.
فمن لم يتق الله تعالى, لم يكن له سبيل إلى الفلاح, ومن اتقاه, فاز بالفلاح والنجاح.
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَسورة البقرة الآية رقم 190
هذه الآيات, تتضمن الأمر بالقتال في سبيل الله, وهذا كان بعد الهجرة إلى المدينة, لما قوى المسلمون للقتال, أمرهم الله به, بعد ما كانوا مأمورين بكف أيديهم.
وفي تخصيص القتال " فِي سَبِيلِ اللَّهِ " حث على الإخلاص, ونهى عن الاقتتال في الفتن بين المسلمين.
" الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ " أي.
الذين هم مستعدون لقتالكم, وهم المكلفون الرجال, غير الشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال.
والنهي عن الاعتداء, يشمل أنواع الاعتداء كلها, من قتل من لا يقاتل, من النساء, والمجانين والأطفال, والرهبان ونحوهم والتمثيل بالقتلى, وقتل الحيوانات, وقطع الأشجار ونحوها, لغير مصلحة تعود للمسلمين.
ومن الاعتداء, مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها, فإن ذلك لا يجوز.
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَسورة البقرة الآية رقم 191
" وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ " هذا أمر بقتالهم, أينما وجدوا في كل وقت, وفي كل زمان قتال مدافعة, وقتال مهاجمة.
ثم استثنى من هذا العموم قتالهم " عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " وأنه لا يجوز إلا أن يبدأوا بالقتال, فإنهم يقاتلون, جزاء لهم على اعتدائهم.
فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة البقرة الآية رقم 192
وهذا مستمر في كل وقت, حتي ينتهوا عن كفرهم فيسلموا, فإن الله يتوب عليهم, ولو حصل منهم ما حصل من الكفر بالله, والشرك في المسجد الحرام, وصد الرسول والمؤمنين عنه وهذا من رحمته وكرمه بعباده.
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَسورة البقرة الآية رقم 193
ولما كان القتال عند المسجد الحرام, يتوهم أنه مفسدة في هذا البلد الحرام, أخبر تعالى أن المفسدة بالفتنة عنده بالشرك, والصد عن دينه, أشد من مفسدة القتل, فليس عليكم - أيها المسلمون - حرج في قتالهم.
ويستدل من هذه الآية - على القاعدة المشهورة - وهي: أنه يرتكب أخف المفسدتين, لدفع أعلاهما.
ثم ذكر تعالى المقصود من القتال في سبيله, وأنه ليس المقصود به, سفك دماء الكفار, وأخذ أموالهم.
ولكن المقصود به أن " وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ " تعالى, فيظهر دين الله تعالى, على سائر الأديان, ويدفع كل ما يعارضه, من الشرك وغيره, وهو المراد بالفتنة.
فإذا حصل هذا المقصود, فلا قتل ولا قتال.
" فَإِنِ انْتَهَوْا " عن قتالكم عند المسجد الحرام " فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ " أي: فليس عليهم منكم اعتداء, إلا من ظلم منهم, فإنه يستحق المعاقبة, بقدر ظلمه.
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَسورة البقرة الآية رقم 194
يقول تعالى: " الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ " , يحتمل أن يكون المراد به, ما وقع من صد المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية, عن الدخول لمكة, وقاضوهم على دخولها من قابل, وكان الصد والقضاء في شهر حرام, وهو ذو القعدة, فيكون هذا بهذا.
فيكون فيه, تطييب لقلوب الصحابة, بتمام نسكهم, وكماله.
ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إن قاتلتموهم في الشهر الحرام, فقد قاتلوكم فيه, وهم المعتدون, فليس عليكم في ذلك حرج.
وعلى هذا فيكون قوله: " وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ " من باب عطف العام على الخاص.
أي: كل شيء يحترم من شهر حرام, أو بلد حرام, أو إحرام, أو ما هو أعم من ذلك, جميع ما أمر الشرع باحترامه, فمن تجرأ عليها, فإنه يقتص منه.
فمن قاتل في الشهر الحرام, قوتل.
ومن هتك البلد الحرام, أخذ منه الحد, ولم يكن له حرمة.
ومن قتل مكافئا له قتل به, ومن جرحه أو قطع عضوا, منه, اقتص منه.
ومن أخذ مال غيره المحترم, أخذ منه بدله.
ولكن هل لصاحب الحق, أن يأخذ من ماله بقدر حقه أم لا؟ خلاف بين العلماء, الراجح من ذلك, أنه, إن كان سبب الحق ظاهرا كالضيف, إذا لم يقره غيره, والزوجة, والقريب إذا امتنع من تجب عليه النفقة من الإنفاق عليه,, فإنه يجوز أخذه من ماله.
وإن كان السبب خفيا, كمن جحد دين غيره, أو خانه في وديعة, أو سرق منه ونحو ذلك, فإنه لا يجوز له أن يأخذ من ماله مقابلة له, جمعا بين الأدلة, ولهذا قال تعالى, توكيدا وتقوية لما تقدم: " فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ " .
هذا تفسير لصفة المقاصة, وأنها هي المماثلة في مقابلة المعتدي.
ولما كانت النفوس - في الغالب - لا تقف على حدها إذا رخص لها في المعاقبة لطلبها التشفي, أمر تعالى بلزوم تقواه, التي هي الوقوف عند حدوده, وعدم تجاوزها, وأخبر تعالى أنه " مَعَ الْمُتَّقِينَ " أي: بالعون, والنصر, والتأييد, والتوفيق.
ومن كان الله معه, حصل له السعادة الأبدية.
ومن لم يلزم التقوى, تخلى عنه وليه, وخذله, فوكله إلى نفسه فصار هلاكه أقرب إليه من حبل الوريد.
وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَسورة البقرة الآية رقم 195
يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله, وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله.
وهي كل طرق الخير, من صدقة على مسكين, أو قريب, أو إنفاق على من تجب مؤنته.
وأعظم ذلك, وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله.
فإن النفقة فيه, جهاد بالمال, وهو فرض كالجهاد بالبدن.
وفيها من المصالح العظيمة, الإعانة على تقوية المسلمين, وتوهين الشرك وأهله, وعلى إقامة دين الله وإعزازه.
فالجهاد في سبيل الله, لا يقوم إلا على ساق النفقة.
فالنفقة له, كالروح, لا يمكن وجوده بدونها.
وفي ترك الإنفاق في سبيل الله, إبطال للجهاد, وتسليط للأعداء, وشدة تكالبهم.
فيكون قوله تعالى: " وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ " كالتعليل لذلك.
والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين: لترك ما أمر به العبد, إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح.
وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح, فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة.
فمن ذلك, ترك الجهاد في سبيل الله, أو النفقة فيه, الموجب لتسلط الأعداء.
ومن ذلك, تغرير الإنسان بنفسه, في مقاتلة, أو سفر مخوف, أو محل مسبعة أو حيات, أو يصعد شجرا, أو بنيانا خطرا, أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك.
فهذا ونحوه, ممن ألقى بيده إلى التهلكة.
ومن ذلك الإقامة على معاصي الله, واليأس من التوبة.
ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض, التي في تركها هلاك للروح والدين.
ولما كانت النفقة في سبيل الله, نوعا من أنواع الإحسان, أمر بالإحسان عموما فقال: " وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان, لأنه لم يقيده بشيء دون شيء.
فيدخل فيه, الإحسان بالمال كما تقدم.
ويدخل فيه, الإحسان بالجاه, بالشفاعات ونحو ذلك.
ويدخل في ذلك, الإحسان بالأمر المعروف, والنهي عن المنكر, وتعليم العلم النافع.
ويدخل في ذلك, قضاء حوائج الناس, من تفريج كرباتهم, وإزالة شدائدهم, وعيادة مرضاهم, وتشييع جنائزهم, وإرشاد ضالهم, وإعانة من يعمل عملا, والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك, مما هو من الإحسان الذي أمر الله به.
ويدخل في الإحسان أيضا, الإحسان في عبادة الله تعالى, وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
" أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه, فإنه يراك " .
فمن اتصف بهذه الصفات, كان من الذين قال الله فيهم " لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ " وكان الله معه يسدده ويرشده, ويعينه على كل أموره.
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِسورة البقرة الآية رقم 196
ولما فرغ تعالى من ذكر أحكام الصيام والجهاد, ذكر أحكام الحج فقال: " وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ " الآية.
يستدل بقوله " وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ " على أمور: أحدها, وجوب الحج والعمرة, وفرضيتهما.
الثاني: وجوب إتمامهما, بأركانهما, وواجباتهما, التي قد دل عليها فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله " خذوا عني مناسككم " .
الثالث: أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة الرابع: أن الحج والعمرة, يجب إتمامهما بالشروع فيهما, ولو كانا نقلا.
الخامس: الأمر بإتقانهما وإحسانهما, وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم لهما.
السادس: وفيه الأمر بإخلاصهما " لِلَّهِ " تعالى.
السابع: أنه لا يخرج المحرم بهما, بشيء من الأشياء حتى يكملهما, إلا بما استثناه الله, وهو الحصر, فلهذا قال: " فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ " أي: منعتم من الوصول إلى البيت لتكميلهما, بمرض, أو ضلالة, أو عدو, ونحو ذلك من أنواع الحصر, الذي هو المنع.
" فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ " أي: فاذبحوا ما استيسر من الهدي, وهو سبع بدنة, أو سبع بقرة, أو شاة يذبحها المحصر, ويحلق ويحل من إحرامه بسبب الحصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لما صدهم المشركون عام الحديبية.
فإن لم يجد الهدي, فليصم بدله, عشرة أيام كما في المتمتع ثم يحل.
ثم قال تعالى " وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ " .
وهذا من محظورات الإحرام, إزالة الشعر, بحلق أو غيره, لأن المعنى واحد من الرأس, أو من البدن, لأن المقصود من ذلك, حصول الشعث والمنع من الترفه بإزالته, وهو موجود في بقية الشعر.
وقاس كثير من العلماء على إزالة الشعر, تقليم الأظفار بجامع الترفه.
ويستمر المنع مما ذكر, حتى يبلغ الهدي محله, وهو يوم النحر.
والأفضل, أن يكون الحلق بعد النحر, كما تدل عليه الآية.
ويستدل بهذه الآية, على أن المتمتع إذا ساق الهدي, لم يتحلل من عمرته قبل يوم النحر.
فإذا طاف وسعى للعمرة, أحرم بالحج, ولم يكن له إحلال بسبب سوق الهدي.
وإنما منع تبارك وتعالى من ذلك, لما فيه من الذل والخضوع لله, والانكسار له, والتواضع الذي هو عين مصلحة العبد, وليس عليه في ذلك من ضرر.
فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من مرض, ينتفع بحلق رأسه له, أو قروح, أو قمل ونحو ذلك فإنه يحل له أن يحلق رأسه, ولكن يكون عليه فدية, من صيام ثلاثة أيام, أو إطعام ستة مساكين, أو نسك ما يجزى في أضحية, فهو مخير.
والنسك أفضل, فالصدقة, فالصيام.
ومثل هذا, كل ما كان في معنى ذلك, من تقليم الأظفار, أو تغطية الرأس, أو لبس المخيط, أو الطيب, فإنه يجوز عند الضرورة, مع وجوب الفدية المذكورة لأن القصد من الجميع, إزالة ما به يترفه.
ثم قال تعالى " فَإِذَا أَمِنْتُمْ " أي: بأن قدرتم على البيت من غير مانع عدو وغيره.
" فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ " بأن توصل بها إليه, وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها.
" فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ " أي: فعليه ما تيسر من الهدي, وهو ما يجزى في أضحية.
وهذا دم نسك, مقابلة لحصول النسكين له في سفرة واحدة, ولإنعام الله عليه بحصول الانتفاع بالمتعة, بعد فراغ العمرة, وقبل الشروع في الحج.
ومثلها, القرآن لحصول النسكين له.
ويدل مفهوم الآية, على أن المفرد للحج, ليس عليه هدي.
ودلت الآية, على جواز, بل فضيلة المتعة, وعلى جواز فعلها في أشهر الحج.
" فَمَنْ لَمْ يَجِدْ " أي الهدي أو ثمنه " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ " .
أول جوازها من حين الإحرام بالعمرة, وآخرها ثلاثة أيام بعد النحر, أيام رمي الجمار, والمبيت بـ " منى " .
ولكن الأفضل منها, أن يصوم السابع, والثامن, والتاسع.
" وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ " أي: فرغتم من أعمال الحج, فيجوز فعلها في مكة, وفي الطريق, وعند وصوله إلى أهله.
" ذَلِكَ " المذكور من وجوب الهدي على المتمتع.
" لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " بأن كان عند مسافة قصر فأكثر, أو بعيدا عند عرفات, فهذا الذي يجب عليه الهدي, لحصول النسكين له في سفر واحد.
وأما من كان أهله من حاضري المسجد الحرام, فليس عليه هدي, لعدم الموجب لذلك.
" وَاتَّقُوا اللَّهَ " أي: في جميع أموركم, بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه.
ومن ذلك, امتثالكم, لهذه المأمورات, واجتناب هذه المحظورات المذكورة في هذه الآية.
" وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " أي: لمن عصاه, وهذا هو الموجب للتقوى, فإن من خاف عقاب الله, انكف عما يوجب العقاب.
كما أن من رجا ثواب الله, عمل لما يوصله إلى الثواب.
ومن لم يخف العقاب, ولم يرج الثواب, اقتحم المحارم, وتجرأ على ترك الواجبات.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِسورة البقرة الآية رقم 197
يخبر تعالى أن " الْحَجَّ " واقع في " أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ " عند المخاطبين, مشهورات, بحيث لا تحتاج إلى تخصيص.
كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره, وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس.
وأما الحج, فقد كان من ملة إبراهيم, التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم.
والمراد بالأشهر المعلومات عند الجمهور, شوال, وذو القعدة, وعشر من ذي الحجة, فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا.
" فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ " أي: أحرم به, لأن الشروع فيه.
يصيره فرضا, ولو كان نفلا.
واستدل بهذه الآية, الشافعي ومن تابعه, على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره.
قلت لو قيل: فيها دلالة لقول الجهور, بصحة الإحرام بالحج قبل أشهره لكان قريبا.
فإن قوله " فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ " دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها, وإلا لم يقيده.
وقوله " فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ " أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج, وخصوصا, الواقع في أشهره, وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه, من الرفث وهو: الجماع ومقدماته الفعلية والقولية, خصوصا عند النساء, بحضرتهن.
والفسوق وهو: جميع المعاصي, ومنها محظورات الإحرام.
والجدال, وهو: المماراة والمنازعة والمخاصة, لكونها تثير الشر, وتوقع العداوة.
والمقصود من الحج, الذل والانكسار لله, والتقرب إليه بما أمكن من القربات, والتنزه عن مقارفة السيئات, فإنه بذلك, يكون مبرورا والمبرور, ليس له جزاء إلا الجنة.
وهذه الأشياء, وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان, فإنه يتغلظ المنع عنها في الحج.
واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر.
ولهذا قال تعالى " وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ " .
[أتى بـ " من " للتنصيص على العموم فكل خير وقربة وعبادة, داخل في ذلك.
أي: فإن الله به عليم, وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير, خصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة, فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها, من صلاة, وصيام, وصدقة, وطواف, وإحسان قولي وفعلي.
ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك, فإن التزود فيه, الاستغناء عن المخلوقين, والكف عن أموالهم, سؤالا واستشرافا.
وفي الإكثار منه, نفع وإعانة للمسافرين, وزيادة قربة لرب العالمين.
وهذا الزاد الذي المراد منه, إقامة البنية - بلغة ومتاع.
وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه, في دنياه, وأخراه, فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار, وهو الموصل لأكمل لذة, وأجل نعيم دائما أبدا.
ومن ترك هذا الزاد, فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر, وممنوع من الوصول إلى دار المتقين.
فهذا مدح للتقوى.
ثم أمر بها أولي الألباب فقال " وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ " .
أي: يا أهل العقول الرزينة, اتقوا ربكم, الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول, وتركها دليل على الجهل, وفساد الرأي.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَسورة البقرة الآية رقم 198
لما أمر تعالى بالتقوى, أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره, ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج, وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله, لا منسوبا إلى حذق العبد, والوقوف مع السبب, ونسيان المسبب, فإن هذا هو الحرج بعينه.
وفي قوله " فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ " دلالة على أمور: أحدها: الوقوف بعرفة, وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج.
فالإفاضة من عرفات, لا تكون إلا بعد الوقوف.
الثاني: الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام, وهو المزدلفة, وذلك أيضا معروف, يكون ليلة النحر بائتا بها, وبعد صلاة الفجر, يقف في المزدلفة داعيا, حتى يسفر جدا, ويدخل في ذكر الله عنده, إيقاع الفرائض والنوافل فيه.
الثالث: أن الوقوف بمزدلفة, متأخر عن الوقوف بعرفة, كما تدل عليه الفاء والترتيب.
الرابع, والخامس: أن عرفات ومزدلفة, كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها, وإظهارها.
السادس: أن مزدلفة في الحرم, كما قيده بالحرام.
السابع: أن عرفة في الحل, كما هو مفهوم التقييد بـ " مزدلفة " .
" وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ " أي: اذكروا الله تعالى, كما من عليكم بالهداية بعد الضلال, وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون.
فهذه من أكبر النعم, التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان.
ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة البقرة الآية رقم 199
" ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ " أي: ثم أفيضوا من مزدلفة, من حيث أفاض الناس, من لدن إبراهيم عليه السلام إلى الآن.
والمقصود من هذه الإفاضة, كان معروفا عندهم, وهو رمي الجمار, وذبح الهدايا, والطواف, والسعي, والمبيت بـ " منى " ليالي التشريق وتكميل باقي المناسك.
فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍسورة البقرة الآية رقم 200
ولما كانت هذه الإفاضة, يقصد بها ما ذكر, والمذكورات آخر المناسك, أمر تعالى عند الفراغ منها, باستغفاره والإكثار من ذكره.
فالاستغفار للخلل الواقع من العبد, في أداء عبادته وتقصيره فيها.
وذكر الله, شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة.
وهكذا ينبغي للعبد, كلما فرغ من عبادة, أن يستغفر الله عن التقصير, ويشكره على التوفيق, لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة, ومن بها على ربه, وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة, فهذا حقيق بالمقت, ورد الفعل.
كما أن الأول, حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر.
ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق, وأن الجميع يسألونه مطالبهم, ويستدفعونه ما يضرهم, ولكن مقاصدهم تختلف.
فمنهم " مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا " أي: يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته, وليس له في الآخرة من نصيب, لرغبته عنها, وقصر همته على الدنيا.
ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين, ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه.
وكل من هؤلاء وهؤلاء, لهم نصيب من كسبهم وعملهم, وسيجازيهم تعالى, على حسب أعمالهم, وهماتهم ونياتهم, جزاء دائرا بين العدل والفضل, يحمد عليه أكمل حمد وأتمه.
وفي هذه الآية, دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع, مسلما أو كافرا, أو فاسقا.
ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه, دليلا على محبته له وقربه منه, إلا في مطالب الآخرة, ومهمات الدين.
والحسنة المطلوبة في الدنيا, يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد, من رزق هني واسع حلال, وزوجة صالحة, وولد تقر به العين, وراحة, وعلم نافع, وعمل صالح, ونحو ذلك, من المطالب المحبوبة والمباحة.
وحسنة الآخرة, هي السلامة من العقوبات, في القبر, والموقف, والنار, وحصول رضا الله, والفوز بالنعيم المقيم, والقرب من الرب الرحيم.
فصار هذا الدعاء, أجمع دعاء وأكمله, وأولاه بالإيثار, ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به, والحث عليه.
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِسورة البقرة الآية رقم 201
أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِسورة البقرة الآية رقم 202
وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَسورة البقرة الآية رقم 203
يأمر تعالى بذكره في الأيام المعدودات, وهي أيام التشريق الثلاثة بعد العيد, لمزيتها وشرفها, وكون بقية المناسك تفعل بها, ولكون الناس أضيافا لله فيها, ولهذا حرم صيامها.
فللذكر فيها مزية, ليست لغيرها, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " أيام التشريق, أيام أكل وشرب, وذكر الله " .
ويدخل في ذكر الله فيها, ذكره عند رمي الجمار, وعند الذبح, والذكر المقيد عقب الفرائض.
بل قال بعض العلماء: إنه يستحب فيها التكبير المطلق, كالعشر, وليس ببعيد.
" فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ " أي خرج من " منى " ونفر منها قبل غروب شمس اليوم الثاني.
" فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ " بأن بات بها ليلة الثالث ورمى من الغد " فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ " وهذا تخفيف من الله تعالى على عباده, في إباحة كلا, الأمرين.
ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كلا الأمرين, فالمتأخر أفضل, لأنه أكثر عبادة.
ولما كان نفي الحرج, قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك المذكور وفي غيره, والحال أن الحرج منفي عن المتقدم والمتأخر فقط - قيده بقوله.
" لِمَنِ اتَّقَى " أي: اتقى الله في جميع أموره, وأحوال الحج.
فمن اتقى الله في كل شيء, حصل له نفي الحرج في كل شيء.
ومن اتقاه في شيء دون شيء, كان الجزاء من جنس العمل.
" وَاتَّقُوا اللَّهَ " بامتثال أوامره واجتناب معاصيه.
" وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " فمجازيكم بأعمالكم.
فمن اتقاه, وجد جزاء التقوى عنده, ومن لم يتقه, عاقبه أشد العقوبة.
فالعلم بالجزاء, من أعظم الدواعي لتقوى الله, فلهذا حث تعالى, على العلم بذلك.
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِسورة البقرة الآية رقم 204
لما أمر تعالى بالإكثار من ذكره, وخصوصا في الأوقات الفاضلة, الذي هو خير مصلحة وبر, أخبر تعالى بحال من يتكلم بلسانه ويخالف فعله قوله, فالكلام إما أن يرفع الإنسان أو يخفضه فقال: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " أي: إذا تكلم, راق كلامه للسامع.
وإذا نطق, ظنته يتكلم بكلام نافع, ويؤكد ما يقول بأنه " وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ " بأن يخبر أن الله يعلم, أن ما في قلبه موافق لما نطق به, وهو كاذب في ذلك, لأنه يخالف قوله فعله.
فلو كان صادقا, لتوافق القول والفعل, كحال المؤمن غير المنافق, ولهذا قال: " وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ " أي: إذا خاصمته, وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب, وما يترتب على ذلك, ما هو من مقابح الصفات, ليس كأخلاق المؤمنين, الذين جعلوا السهولة مركبهم, والانقياد للحق وظيفتهم, والسماحة سجيتهم.
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَسورة البقرة الآية رقم 205
" وَإِذَا تَوَلَّى " هذا الذي يعجبك قوله إذا حضر عندك " سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا " أي: يجتهد على أعمال المعاصي, التي هي إفساد في الأرض " وَيُهْلِكَ " بسبب ذلك " الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ " فالزروع والثمار والمواشي, تتلف وتنقص, وتقل بركتها, بسبب العمل في المعاصي.
" وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ " فإذا كان لا يحب الفساد, فهو يبغض العبد المفسد في الأرض, غاية البغض, وإن قال بلسانه قولا حسنا.
ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص, ليست دليلا على صدق ولا كذب, ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها, المزكى لها وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود, والمحق والمبطل من الناس, ببر أعمالهم, والنظر لقرائن أحوالهم, وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم.
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُسورة البقرة الآية رقم 206
ثم ذكر أن هذا المفسد في الأرض بمعاصي الله, إذا أمر بتقوى الله تكبر وأنف.
" أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ " فيجمع يين العمل بالمعاصي والتكبر على الناصحين.
" فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ " التي هي دار العاصين والمتكبرين.
" وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ " أي: المستقر والمسكن, عذاب دائم, وهم لا ينقطع, ويأس مستمر, لا يخفف عنهم العذاب, ولا يرجون الثواب, جزاء لجنايتهم ومقابلة لأعمالهم.
فعياذا بالله, من أحوالهم.
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِسورة البقرة الآية رقم 207
معاني المفردات.
قال في الصحاح: شريت الشيء أشريه شراء: إذا بعته وإذا اشتريته أيضا, وهو من الأضداد.
قال الله تعالى " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ " أي: يبيعها.
وقال تعالى: " وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ " أي: باعوه ا هـ ومثله في القاموس.
هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان الرومي حين أراده المشركون على ترك الإسلام, كما رواه ابن عباس وأنس, وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة غيرهم.
وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة, منعه الناس أن يهاجر بماله, وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر: فعل.
فتخلص منهم وأعطاهم ماله, فأنزل الله فيه هذه الآية.
فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة, إلى طرف الحرة, فقالوا له: ربح البيع ربح البيع.
فقال: وأنتم, فلا أخسر الله تجارتكم, وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية.
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " ربح البيع صهيب " .
وحدث أبو عثمان النهدي عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش: يا صهيب, قدمت إلينا ولا مال لك, وتخرج أنت ومالك؟ والله لا يكون ذلك أبدا.
فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا: نعم.
فدفعت إليهم مالي, فخلوا عني, فحرجت حتى قدمت المدينة.
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ربح صهيب ربح صهيب " مرتين.
وقال حماد بن سلمة, عن علي بن يزيد, عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم, فاتبعه نفر من قريش.
فنزل عن راحلته, ونثل ما في كنانته, ثم قال: يا معشر قريش, قد علمتم أني من أرماكم رجلا.
وأنتم - والله - لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي, ثم أضرب بسيفي, ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم.
وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة, وخليتم سبيلي, قالوا له: نعم.
فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ربح البيع " قال: ونزلت ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد.
وأما الأكثرون, فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله كما قال تعالى: " إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " .
ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين, أنكر عليه بعض الناس.
فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما, وتلوا هذه الآية.
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد ا هـ.
من تفسير ابن كثير بتصرف يسير.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌسورة البقرة الآية رقم 208
هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا " فِي السِّلْمِ كَافَّةً " أي: في جميع شرائع الدين, ولا يتركوا منها شيئا, وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه, إن وافق الأمر المشروع هواه فعله, وإن خالفه, تركه.
بل الواجب, أن يكون الهوى, تبعا للدين, وأن يفعل كل ما يقدر عليه, من أفعال الخير, وما يعجز عنه, يلتزمه وينويه, فيدركه بنيته.
ولما كان الدخول في السلم كافة, لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال: " وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ " أي: في العمل بمعاصي الله " إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ " ظاهر العداوة.
والعدو المبين, لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء, وما به الضرر عليكم.
فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌسورة البقرة الآية رقم 209
ولما كان العبد لا بد أن يقع منه خلل وزلل, قال تعالى " فَإِنْ زَلَلْتُمْ " أي أخطأتم ووقعتم في الذنوب.
" مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ " أي: على علم ويقين " فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " .
وفيه من الوعيد الشديد, والتخويف, ما يوجب ترك الزلل, فإن العزيز المقام الحكيم, إذا عصاه العاصي, قهره بقوته, وعذبه بمقتضى حكمته فإن من حكمته, تعذيب العصاة والجناة.
وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد, ما تنخلع له القلوب.
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُسورة البقرة الآية رقم 210
يقول تعالى: هل ينتظر الساعون في الفساد في الأرض, المتبعون لخطوات الشيطان, النابذون لأمر الله إلا يوم الجزاء بالأعمال, الذي قد حشى من الأهوال والشدائد والفظائع, ما يقلقل قلوب الظالمين, ويحيق به الجزاء السيئ على المفسدين.
وذلك أن الله تعالى يطوي السماوات والأرض, وتنتثر الكواكب, وتكور الشمس والقمر, وتنزل الملائكة الكرام, فتحيط بالخلائق, وينزل الباري تبارك وتعالى " فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ " ليفصل بين عباده بالقضاء العدل.
فتوضع الموازين, وتنشر الدواوين, وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود وجوه أهل الشقاوة, ويتميز أهل الخير من أهل الشر.
وكل يجازى بعمله.
فهنالك يعض الظالم على يديه, إذا علم حقيقة ما هو عليه.
وهذه الآية وما أشبهها, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, المثبتين للصفات الاختيارية, كالاستواء, والنزول, والمجيء, ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى, عن نفسه, وأخبر بها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
فيثبتونها لمعانيها على وجه يليق بجلال الله وعظمته, من غير تشبيه ولا تحريف.
ولا تعطيل.
خلافا للمعطلة, على اختلاف أنواعهم, من الجهمية, والمعتزلة, والأشعرية ونحوهم, ممن ينفي هذه الصفات, ويتأول - لأجلها - الآيات بتأويلات ما أنزل الله بها من سلطان, بل حقيقتها, القدح في بيان الله وبيان رسوله, والزعم بأن كلامهم, هو الذي تحصل به الهداية في هذا الباب.
فهؤلاء ليس معهم دليل نقلي, بل ولا دليل عقلي.
أما النقلي, فقد اعترفوا أن النصوص الواردة في الكتاب والسنة, ظاهرها, بل صريحها, دال على مذهب أهل السنة والجماعة, وأنها تحتاج لدلالتها على مذهبهم الباطل, أن تخرج عن ظاهرها ويزاد فيها وينقص.
وهذا كما ترى, لا يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وأما العقل, فليس في العقل ما يدل على نفي هذه الصفات.
بل العقل دل على أن الفاعل, أكمل من الذي لا يقدر على الفعل, وأن فعله تعالى, المتعلق بنفسه, والمتعلق بخلقه, هو كمال.
فإن زعموا أن إثباتها يدل على التشبيه بخلقه.
قيل لهم: الكلام على الصفات, يتبع الكلام على الذات.
فكما أن لله ذاتا لا تشبهها الذوات, فلله صفات لا تشبهها الصفات.
فصفاته تبع لذاته, وصفات خلقه, تبع لذواتهم, فليس في إثباتها, ما يقتضي التشبيه بوجه.
ويقال أيضا, لمن أثبت بعض الصفات, ونفى بعضا, أو أثبت الأسماء دون الصفات: إما أن تثبت الجميع كما أثبته الله لنفسه, وأثبته رسوله.
وإما أن تنفي الجميع, وتكون منكرا لرب العالمين.
وأما إثباتك بعض ذلك, ونفيك لبعضه, فهذا تناقض.
ففرق بين ما أثبته, وبين ما نفيته, ولن تجد إلى الفرق سبيلا.
فإن قلت: ما أثبته لا يقتضي تشبيها.
قال لك أهل السنة والإثبات: لما نفيته لا يقتضي تشبيها.
فإن قلت: لا أعقل من الذي نفيته إلا التشبيه.
قال لك النفاة: ونحن لا نعقل من الذي أثبته إلا التشبيه.
فما أجبت به النفاة, أجابك به أهل السنة, لما نفيته.
والحاصل أن من نفى شيئا, مما دل الكتاب والسنة على إثباته, فهو متناقض, لا يثبت له دليل شرعي ولا عقلي, بل قد خالف المعقول والمنقول.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10

شاركَ في تقييمِ موقعنا على Google
facebook