الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10
إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌسورة البقرة الآية رقم 271
وأخبر أن الصدقة, إن أبداها المتصدق, فهي خير, وإن أخفاها, وسلمها للفقير, كان أفضل.
لأن الإخفاء على الفقير, إحسان آخر.
وأيضا, فإنه يدل على قوة الإخلاص.
وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله " من تصدق بصدقة فأخفاها, حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " .
وفي قوله: " وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ " فائدة لطيفة.
وهو أن إخفاءها خير من إظهارها, إذا أعطيت الفقير.
فأما إذا صرفت في مشروع خيري, لم يكن في الآية, ما يدل على فضيلة إخفائها, بل هنا قواعد الشرع, تدل على مراعاة المصلحة.
فربما كان الإظهار خيرا, لحصول الأسوة والاقتداء, وتنشيط النفوس على أعمال الخير.
وقوله: " وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ " في هذا: أن الصدقات يجتمع فيها الأمران.
حصول الخير, وهو: كثرة الحسنات والثواب والأجر.
ودفع الشر والبلاء الدنيوي والأخروي, بتكفير السيئات.
" وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " فيجازي كلا بعمله, بحسب حكمته.
لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 272
أي: إنما عليك - أيها الرسول - البلاغ, وحث الناس على الخير, وزجرهم عن الشر, وأما الهداية, فبيد الله تعالى: ويخبر عن المؤمنين حقا, أنهم لا ينفقون إلا لطلب مرضاة ربهم, واحتساب ثوابه, لأن إيمانهم, يدعوهم إلى ذلك.
فهذا خير وتزكية للمؤمنين, ويتضمن التذكير لهم, بالإخلاص.
وكرر علمه - تعالى - بنفقاتهم, لإعلامهم أنه لا يضيع عنده, مثقال ذرة " وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " .
لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 273
يعني أنه ينبغي أن تتحروا بصدقاتكم الفقراء, الذين حبسوا أنفسهم في سبيل الله, وعلى طاعته, وليس لهم إرادة في الاكتساب, أو ليس لهم قدرة عليه, وهم يتعففون.
إذا رآهم الجاهل ظن أنهم أغنياء " لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا " .
فهم لا يسألون بالكلية, وإن سألوا اضطرارا, لم يلحفوا في السؤال.
فهذا الصنف من الفقراء, أفضل ما وضعت فيهم النفقات, لدفع حاجتهم, وإعانة لهم على مقصدهم وطريق الخير, وشكرا لهم على ما اتصفوا به, من الصبر, والنظر إلى الخالق, لا إلى الخلق.
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَسورة البقرة الآية رقم 274
ومع ذلك, فالإنفاق في طرق الإحسان وعلى المحاويج حيثما كانوا, فإنه خير وأجر, وثواب عند الله ولهذا قال تعالى: " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً " الآية.
" الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً " الآية.
فإن الله يظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله, وإن الله ينيلهم الخيرات ويدفع عنهم الأحزان والمخاوف والكريهات.
وقوله: " فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ " أي كل أحد منهم بحسب حاله.
وتخصيص ذلك, بأنه عند ربهم, يدل على شرف هذه الحال, ووقوعها في الموقع الأكبر, كما في الحديث الصحيح.
" إن العبد ليتصدق بالتمرة من كسب طيب فيتقبلها الجبار بيده فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل العظيم " .
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَسورة البقرة الآية رقم 275
لما ذكر الله حالة المنفقين وما لهم من الله, من الخيرات, وما يكفر عنهم, من الذنوب والخطيئات, ذكر الظالمين أهل الربا والمعاملات الخبيثة, وأخبر أنهم يجازون بحسب أعمالهم.
فكما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين, عوقبوا في البرزخ والقيامة, بأنهم لا يقومون من قبورهم, أو يوم بعثهم ونشورهم " إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ " أي: من الجنون والصرع.
وذلك عقوبة, وخزي وفضيحة لهم, وجزاء لهم على مراباتهم ومجاهرتهم بقولهم " إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا " .
فجمعوا - بجراءتهم - بين ما أحل الله, وبين ما حرم الله, واستباحوا بذلك, الربا.
ثم عرض تعالى, العقوبة على المرابين وغيرهم فقال: " فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ " بيان مقرون به الوعد والوعيد.
" فَانْتَهَى " عما كان يتعاطاه من الربا " فَلَهُ مَا سَلَفَ " مما تجرأ عليه وتاب منه.
" وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ " فيما يستقبل من زمانه.
فإن استمر على توبته, فالله لا يضيع أجر المحسنين.
" وَمَنْ عَادَ " بعد بيان الله وتذكيره وتوعده لأكل الربا " فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " في هذا أن الربا موجب لدخول النار والخلود فيها, وذلك لشناعته, ما لم يمنع من الخلود مانع الإيمان.
وهذا من جملة الأحكام, التي تتوقف على وجود شروطها, وانتفاء موانعها.
وليس فيها حجة للخوارج, كغيرها من آيات الوعيد.
فالواجب أن تصدق جميع نصوص الكتاب والسنة.
فيؤمن العبد, بما تواترت به النصوص, من خروج من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من الإيمان, من النار.
ومن استحقاق هذه الموبقات لدخول النار, إن لم يتب منها.
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍسورة البقرة الآية رقم 276
ثم أخبر تعالى, أنه يمحق مكاسب المرابين, ويربي صدقات المنفقين, عكس ما يتبادر لأذهان كثير من الخلق, أن الإنفاق ينقص المال وأن الربا يزيده, فإن مادة الرزق وحصول ثمراته, من الله تعالى.
وما عند الله, لا ينال إلا بطاعته, وامتثال أمره.
فالمتجرئ على الربا, يعاقبه بنقيض مقصوده, وهذا مشاهد بالتجربة و " من أصدق من الله قيلا " .
" وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ " وهو الذي كفر نعمة الله, وجحد منة ربه, وأثم بإصراره على معاصيه.
ومفهوم الآية, أن الله يحب من كان شكورا على النعماء, تائبا من المآثم والذنوب.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَسورة البقرة الآية رقم 277
ثم أدخل هذه الآية بين آيات الربا, وهي قوله: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ " الآية, لبيان أن أكبر الأسباب لاجتناب ما حرم الله من المكاسب الربوية, تكميل الإيمان وحقوقه.
خصوصا, إقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
وإن الزكاة إحسان إلى الخلق, ينافي تعاطي الربا, الذي هو ظلم لهم, وإساءة عليهم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَسورة البقرة الآية رقم 278
ثم وجه الخطاب للمؤمنين, وأمرهم أن يتقوه.
ويذروا ما بقي من معاملات الربا, التي كانوا يتعاطونها قبل ذلك وأنهم إن لم يفعلوا ذلك, فإنهم محاربون لله ورسوله.
وهذا من أعظم ما يدل على شناعة الربا, حيث جعل المصر عليه, محاربا لله ورسوله.
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 279
ثم قال " وَإِنْ تُبْتُمْ " يعني من المعاملات الربوية.
" فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ " الناس بأخذ الربا " وَلَا تُظْلَمُونَ " ببخسكم رءوس أموالكم.
فكل من تاب من الربا, فإن كانت معاملات سالفة, فله ما سلف, وأمره منظور فيه.
وإن كانت معاملات موجودة, وجب عليه أن يقتصر على رأس ماله.
فإن أخذ زيادة, فقد تجرأ على الربا.
وفي هذه الآية, بيان لحكمة تحريم الربا, وأنه يتضمن الظلم للمحتاجين, بأخذ الزيادة, وتضاعف الربا عليهم, وهو واجب إنظارهم.
وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 280
ولهذا قال: " وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ " .
أي: وإن كان الذي عليه الدين معسرا, لا يقدر على الوفاء, وجب على غريمه, أن ينظره إلى ميسرة.
وهو يجب عليه إذا حصل له وفاء بأي طريق مباح, أن يوفى ما عليه.
وإن تصدق عليه غريمه - بإسقاط الدين كله أو بعضه - فهو خير له, ويهون على العبد, التزام الأمور الشرعية, واجتناب المعاملات الربوية, والإحسان إلى المعسرين, علمه بأن له يوما يرجع فيه إلى الله, ويوفيه عمله, ولا يظلمه مثقال ذرة.
كما ختم هذه الآية بقوله: " وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ " .
وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 281
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 282
ثم قال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ " الآية.
احتوت هذه الآيات, على إرشاد الباري عباده في معاملاتهم, إلى حفظ حقوقهم بالطرق النافعة والإصلاحات التي لا تقترح العقلاء أعلى ولا أكمل منها, فإن فيها فوائد كثيرة.
منها: جواز المعاملات في الديون, سواء كانت ديون سلم أو شراء مؤجلا ثمنه, فكله جائز, لأن الله أخبر به عن المؤمنين, وما أخبر به عن المؤمنين, فإنه من مقتضيات الإيمان وقد أقرهم عليه الملك الديان.
ومنها: وجوب تسمية الأجل في جميع المداينات وحلول الإجارات.
ومنها: أنه إذا كان الأجل مجهولا, فإنه لا يحل, لأنه غرر وخطر, فيدخل في الميسر.
ومنها: أمره تعالى, بكتابة الديون.
وهذا الأمر قد يجب, إذا وجب حفظ الحق, كالذي للعبد عليه ولاية, وكأموال اليتامى, والأوقاف, والوكلاء, والأمناء.
وقد يقارب الوجوب, كما إذا كان الحق متمحضا للعبد, فقد يقوى الاستحباب, بحسب الأحوال المقتضية لذلك.
وعلى كل حال, فالكتابة من أعظم ما تحفظ به هذه المعاملات المؤجلة, لكثرة النسيان, ولوقوع المغالطات, وللاحتراز من الخونة الذين لا يخشون الله تعالى.
ومنها: أمره تعالى للكاتب أن يكتب بين المتعاملين بالعدل, فلا يميل مع أحدهما لقرابة ولا غيرها, ولا على أحدهما, لعداوة ونحوها.
ومنها: أن الكتابة بين المتعاملين من أفضل الأعمال, ومن الإحسان إليهما.
وفيها حفظ حقوقهما, وبراءة ذممها, كما أمره الله بذلك.
فليحتسب الكاتب بين الناس, هذه الأمور, ليحظى بثوابها.
ومنها: أن الكاتب لا بد أن يكون عارفا بالعدل, معروفا بالعدل.
لأنه إذا لم يكن عارفا بالعدل, لم يتمكن منه.
وإذا لم يكن معتبرا عدلا عند الناس رضيا, لم تكن كتابته معتبرة, ولا حاصلا بها المقصود, الذي هو حفظ الحقوق.
ومنها: أن من تمام الكتابة والعدل فيها, أن يحسن الكاتب الإنشاء, والألفاظ المعتبرة, في كل معاملة بحسبها.
وللعرف في هذا المقام, اعتبار عظيم.
ومنها: أن الكتابة من نعم الله على العباد, التي لا تستقيم أمورهم الدينية ولا الدنيوية إلا بها, وأن من علمه الله الكتابة, فقد تفضل عليه بفضل عظيم.
فمن تمام شكره لنعمة الله تعالى, أن يقضي بكتابته حاجات العباد, ولا يمتنع من الكتابة ولهذا قال: " وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ " .


" فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى "
ومنها: أن الذي يكتبه الكاتب, هو اعتراف من عليه الحق, إذا كان يحسن التعبير عن الحق الذي عليه.
فإن كان لا يحسن ذلك - لصغره, أو سفهه, أو جنونه, أو خرسه, أو عدم استطاعته - أملى عنه وليه, وقام وليه في ذلك مقامه.
ومنها: أن الاعتراف من أعظم الطرق, التي تثبت بها الحقوق, حيث أمر الله تعالى أن يكتب الكاتب, ما أملى عليه من عليه الحق.
ومنها: ثبوت الولاية على القاصرين, من الصغار, والمجانين, والسفهاء ونحوهم.
ومنها: أن الولي يقوم مقام موليه, في جميع اعترافاته المتعلقة بحقوقه.
ومنها: أن من أمنته في معاملة; وفوضته فيها; فقوله في ذلك مقبول.
وهو نائب منابك; لأنه إذا كان الولي على القاصرين; ينوب منابهم.
فالذي وليته باختيارك; وفوضت إليه الأمر, أولى بالقبول, واعتبار قوله وتقديمه على قولك; عند الاختلاف.
ومنها: أنه يجب على الذي عليه الحق - إذا أملى على الكاتب - أن يتقي الله; ولا يبخس الحق الذي عليه; فلا ينقصه في قدره; ولا في وصفه, ولا في شرط من شروطه; أو قيد من قيوده.
بل عليه أن يعترف بكل ما عليه من متعلقات الحق; كما يجب ذلك إذا كان الحق على غيره له.
فمن لم يفعل ذلك; فهو من المطففين الباخسين.
ومنها: وجوب الاعتراف بالحقوق الخفية; وأن ذلك من أعظم خصال التقوى; كما أن ترك الاعتراف بها من نواقض التقوى ونواقصها.
ومنها: الإرشاد إلى الإشهاد في البيع.
فإن كانت في المداينات; فحكمها حكم الكتابة كما تقدم; لأن الكتابة هي كتابة الشهادة.
وإن كان البيع بيعا حاضرا; فينبغي الإشهاد فيه.
ولا حرج فيه بترك الكتابة; لكثرته وحصول المشقة فيه.
ومنها: الإرشاد إلى إشهاد رجلين عدلين.
فإن لم يمكن, أو تعذر, أو تعسر, فرجل وامرأتان.
وذلك شامل لجميع المعاملات, بيوع الإدارة, وبيوع الديون وتوابعها من الشروط والوثائق وغيرها.
وإذا قيل: قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد الواحد مع اليمين, والآية الكريمة ليس فيها إلا شهادة رجلين, أو رجل وامرأتين.
قيل: الآية الكريمة, فيها إرشاد الباري عباده إلى حفظ حقوقهم.
ولهذا أتى فيها بأكمل الطرق, وأقواها.
وليس فيها, ما ينافي ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم بالشاهد واليمين.
فباب حفظ الحقوق في ابتداء الأمر, يرشد فيه العبد إلى الاحتراز والتحفظ التام.
وباب الحكم بين المتنازعين, ينظر فيه إلى المرجحات والبينات, بحسب حالها.
ومنها: أن شهادة المرأتين, قائمة مقام الرجل الواحد, في الحقوق الدنيوية.
وأما في الأمور الدينية - كالرواية والفتوى - فإن المرأة فيه, تقوم مقام الرجل, والفرق ظاهر بين البابين.
ومنها: الإرشاد إلى الحكمة في كون شهادة المرأتين عن شهادة الرجل, وأنه لضعف ذاكرة المرأة غالبا, وقوة حافظة الرجل.
ومنها: أن الشاهد لو نسى شهادته, فذكره الشاهد الآخر, فذكر أنه لا يضر ذلك النسيان, إذا زال بالتذكير لقوله: " أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى " وصن باب أولى, إذا نسي الشاهد, ثم ذكر من دون تذكير, فإن الشهادة مدارها على العلم واليقين.
ومنها: أن الشهادة لا بد أن تكون عن علم ويقين, لا عن شك.
فمتى صار عند الشاهد, ريب في شهادته - ولو غلب على ظنه - لم يحل له أن يشهد إلا بما يعلم.


" ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا "
ومنها: أن الشاهد ليس له أن يمتنع, إذا دعي للشهادة, سواء دعي للتحمل أو للأداء.
وأن القيام بالشهادة من أفضل الأعمال الصالحة, كما أمر الله بها, وأخبر عن نفعها ومصالحها.
ومنها: أنه لا يحل الإضرار بالكاتب, ولا بالشهيد, بأن يدعيا في وقت أو حالة, تضرهما.
وكما أنه نهى لأهل الحقوق والمتعاملين, وأن يضاروا الشهود والكتاب, فإنه أيضا, نهى للكاتب والشهيد, أن يضار المتعاملين أو أحدها.
وفي هذا أيضا أن الشاهد والكاتب - إذا حصل عليهما ضرر في الكتابة والشهادة - أنه يسقط عنهما الوجوب.
وفيها التنبيه على أن جميع المحسنين الفاعلين للمعروف, لا يحل إضرارهم, وتحميلهم ما لا يطيقون, فـ " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ " .
وكذلك على من أحسن وفعل معروفا, أن يتمم إحسانه بترك الإضرار القولي والفعلي, بمن أوقع به المعروف, فإن الإحسان, لا يتم إلا بذلك.
ومنها: أنه لا يجوز أخذ الأجرة على الكتابة والشهادة, حيث وجبت, لأنه حق أوجبه الله على الكاتب والشهيد, ولأنه من مضارة المتعاملين.
ومنها: التنبيه على المصالح والفوائد المترتبة على العمل بهذه الإرشادات الجليلة, وأن فيها حفظ الحقوق والعدل, وقطع التنازع والسلامة من النسيان والذهول ولهذا قال: " ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا " وهذه مصالح ضرورية للعباد.


" إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم "
ومنها: أن تعلم الكتابة من الأمور الدينية, لأنها وسيلة إلى حفظ الدين والدنيا وسبب للإحسان.
ومنها: أن من خصه الله بنعمة من النعم, يحتاج الناس إليها.
فمن تمام شكر هذه النعمة, أن يعود بها على عباد الله, وأن يقضي بها حاجتهم, لتعليل الله النهي عن الامتناع عن الكتابة, بتذكير الكاتب بقوله " كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ " .
ومع هذا " فمن كان في حاجة أخيه, كان الله في حاجته " .
ومنها: أن الإضرار بالشهود والكتاب, فسوق بالإنسان.
فإن الفسوق هو: الخروج عن طاعة الله إلى معصيته, وهو يزيد وينقص, ويتبعض.
ولهذا لم يقل " فأنتم فساق " أو " فاسقون " بل قال " فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ " .
فبقدر خروج العبد عن طاعة ربه, فإنه يحصل به من الفسوق, بحسب ذلك.
واستدل بقوله تعالى " وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ " أن تقوى الله, وسيلة إلى حصول العلم.
وأوضح من هذا قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا " أي: علما تفرقون به بين الحقائق, والحق والباطل.
ومنها: أنه كما أنه من العلم النافع, تعليم الأمور الدينية المتعلقة بالعبادات, فمنه أيضا, تعليم الأمور الدينوية المتعلقة بالمعاملات, فإن الله تعالى, حفظ على العباد أمور دينهم ودنياهم, وكتابه العظيم فيه تبيان كل شيء.
" وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ "
ومنها: مشروعية الوثيقة بالحقوق, وهي الرهون والضمانات, التي تكفل للعبد حصوله على حقه, سواء عامل برا أو فاجرا, أمينا خائنا.
فكم في الوثائق, من حفظ حقوق, وانقطاع منازعات.
ومنها: أن تمام الوثيقة في الرهن, أن يكون مقبوضا.
ولا يدل ذلك, على أنه لا يصح الرهن إلا بالقبض, بل التقييد بكون الرهن مقبوضا, يدل على أنه قد يكون مقبوضا, تحصل به الثقة التامة, وقد لا يكون مقبوضا, فيكون ناقصا.
ومنها: أنه يستدل بقوله " فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ " أنه إذا اختلف الراهن والمرتهن في مقدار الدين الذي به الرهن, أن القول قول المرتهن, صاحب الحق, لأن الله جعل الرهن وثيقة به.
فلولا أنه يقبل قوله في ذلك, لم تحصل به الوثيقة لعدم الكتابة والشهود.
ومنها: أنه يجوز التعامل بغير وثيقة, ولا شهود, لقوله " فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ " ولكن في هذه الحال يحتاج إلى التقوى والخوف من الله, وإلا فصاحب الحق مخاطر في حقه ولهذا أمر الله في هذه الحال, من عليه الحق, أن يتقي الله ويؤدي أمانته.
ومنها: أن من ائتمنه معامله, فقد عمل معه معروفا عظيما, ورضي بدينه وأمانته.
فيتأكد على من عليه الحق, أداء الأمانة من الجهتين: أداء لحق الله, وامتثالا لأمره, ووفاء بحق صاحبه, الذي رضي بأمانته, ووثق به.
ومنها: تحريم كتم الشهادة, وأن كاتمها قد أثم قلبه, الذي هو ملك الأعضاء.
وذلك لأن كتمها, كالشهادة بالباطل والزور, فيها ضياع الحقوق, وفساد المعاملات, والإثم المتكرر في حقه, وحق من عليه الحق.
وأما تقييد الرهن بالسفر - مع أنه يجوز حضرا وسفرا - فللحاجة إليه, لعدم الكاتب والشهيد.
وختم الآية بأنه " عليم " بكل ما يعمله العباد, كالترغيب لهم في المعاملات الحسنة, والترهيب من المعاملات السيئة.
وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 283
لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة البقرة الآية رقم 284
يخبر تعالى, بعموم ملكه لأهل السماء والأرض, وإحاطة علمه بما أبداه العباد, وما أخفوه في أنفسهم, وأنه سيحاسبهم به, فيغفر لمن يشاء, وهو المنيب إلى ربه, الأواب إليه " فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا " .
ويعذب من يشاء, وهو المصر على المعاصي, في باطنه وظاهره.
وهذه الآية, لا تنافي الأحاديث الواردة في العفو, عما حدث به العبد نفسه, ما لم يعمل أو يتكلم.
فتلك الخطرات هي التي تتحدث بها النفوس, التي لا يتصف بها العبد ولا يصمم عليها.
وأما هنا فهي العزائم المصممة, والأوصاف الثابتة في النفوس, أوصاف الخير, وأوصاف الشر, ولهذا قال " مَا فِي أَنْفُسِكُمْ " أي: استقر فيها وثبت, من العزائم والأوصاف.
وأخبر أنه " عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " فمن تمام قدرته, محاسبة الخلائق, وإيصال ما يستحقونه, من الثواب والعقاب.
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُسورة البقرة الآية رقم 285
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن من قرأ هاتيمن الآيتين في ليلته كفتاه أي: من جميع الشرور, وذلك لما احتوتا عليه من المعاني الجليلة.
فإن الله أمر في أول هذه السورة, الناس بالإيمان, بجميع أصوله في قوله: " قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا " الآية.
وأخبر في هذه الآية, أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين, آمنوا بهذه الأصول العظيمة, وبجميع الرسل, وجميع الكتب.
ولم يصنعوا صنيع من آمن ببعض, وكفر ببعض, كحالة المنحرفين من أهل الأديان المنحرفة.
وفي قرن المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم, والإخبار عنهم جميعا بخبر واحد, شرف عظيم للمؤمنين.
وفيه أنه صلى الله عليه وسلم مشارك للأمة في الخطاب الشرعي له, وقيامه التام به, وأنه فاق المؤمنين بل فاق جميع المرسلين في القيام بالإيمان وحقوقه.
وقوله " وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا " هذا التزام من المؤمنين, عام لجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة, وأنهم سمعوه سماع قبول وإذعان وانقياد.
ومضمون ذلك, تضرعهم إلى الله في طلب الإعانة على القيام به, وأن الله يغفر لهم ما قصروا فيه من الواجبات, وما ارتكبوه من المحرمات, وكذلك تضرعوا إلى الله في هذه الأدعية النافعة.
والله تعالى قد أجاب دعاءهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فقال " قد فعلت " .
فهذه الدعوات, مقبولة من مجموع المؤمنين قطعا, ومن أفرادهم, إذا لم يمنع من ذلك مانع في الأفراد.
وذلك أن الله رفع عنهم المؤاخذة, في الخطأ والنسيان, وأن الله سهل عليهم شرعه غاية التسهيل.
ولم يحملهم من المشاق, والآصار, والأغلال, ما حمله على من قبلهم, ولم يحملهم فوق طاقتهم, وقد غفر لهم ورحمهم, ونصرهم على القوم الكافرين.
فنسأل الله تعالى, بأسمائه وصفاته, وبما من به علينا من التزام دينه, أن يحقق لنا ذلك, وأن ينجز لنا ما وعدنا على لسان نبيه, وأن يصلح أحوال المؤمنين.
ويؤخذ من هنا, قاعدة التيسير, ونفي الحرج في أمور الدين كلها.
وقاعدة العفو عن النسيان والخطأ, في العبادات, وفي حقوق الله تعالى.
وكذلك في حقوق الخلق من جهة رفع المأثم, وتوجه الذم.
وأما وجوب ضمان المتلفات, خطأ أو نسيانا, في النفوس والأموال, فإنه مرتب على الإتلاف بغير حق, وذلك شامل لحالة الخطأ والنسيان, والعمد.
لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَسورة البقرة الآية رقم 286
لما نزل قوله تعالى ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله‏}‏ شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به، فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي‏:‏ أمرا تسعه طاقتها، ولا يكلفها ويشق عليها، كما قال تعالى ‏{‏ما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدًان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم، ثم أخبر تعالى أن لكل نفس ما كسبت من الخير، وعليها ما اكتسبت من الشر، فلا تزر وازرة وزر أخرى ولا تذهب حسنات العبد لغيره، وفي الإتيان بـ ‏"‏كسب‏"‏ في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى سعي منه بل بمجرد نية القلب وأتى بـ ‏"‏اكتسب‏"‏ في عمل الشر للدلالة على أن عمل الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله ويحصل سعيه، ولما أخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه وأن كل عامل سيجازى بعمله، وكان الإنسان عرضة للتقصير والخطأ والنسيان، وأخبر أنه لا يكلفنا إلا ما نطيق وتسعه قوتنا، أخبر عن دعاء المؤمنين بذلك، وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الله قال‏:‏ قد فعلت‏.‏ إجابة لهذا الدعاء، فقال ‏{‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏}‏ والفرق بينهما‏:‏ أن النسيان‏:‏ ذهول القلب عن ما أمر به فيتركه نسيانا، والخطأ‏:‏ أن يقصد شيئًا يجوز له قصده ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله‏:‏ فهذان قد عفا الله عن هذه الأمة ما يقع بهما رحمة بهم وإحسانا، فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب، أو نجس، أو قد نسي نجاسة على بدنه، أو تكلم في الصلاة ناسيا، أو فعل مفطرا ناسيا، أو فعل محظورًا من محظورات الإحرام التي ليس فيها إتلاف ناسيا، فإنه معفو عنه، وكذلك لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا، وكذلك لو أخطأ فأتلف نفسا أو مالا فليس عليه إثم، وإنما الضمان مرتب على مجرد الإتلاف، وكذلك المواضع التي تجب فيها التسمية إذا تركها الإنسان ناسيا لم يضر‏.‏ ‏{‏ربنا ولا تحمل علينا إصرًا‏}‏ أي‏:‏ تكاليف مشقة ‏{‏كما حملته على الذين من قبلنا‏}‏ وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها ‏{‏ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏}‏ وقد فعل وله الحمد ‏{‏واعف عنا واغفر لنا وارحمنا‏}‏ فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور، والرحمة يحصل بها صلاح الأمور ‏{‏أنت مولانا‏}‏ أي‏:‏ ربنا ومليكنا وإلهنا الذي لم تزل ولايتك إيانا منذ أوجدتنا وأنشأتنا فنعمك دارة علينا متصلة عدد الأوقات، ثم أنعمت علينا بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة، وهي نعمة الإسلام التي جميع النعم تبع لها، فنسألك يا ربنا ومولانا تمام نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين، الذين كفروا بك وبرسلك، وقاوموا أهل دينك ونبذوا أمرك، فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان، بأن تمكن لنا في الأرض وتخذلهم وترزقنا الإيمان والأعمال التي يحصل بها النصر، والحمد لله رب العالمين‏.‏ تم تفسير سورة البقرة بعون الله وتوفيقه وصلى الله على محمد وسلم‏.‏
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10

شاركَ في تقييمِ موقعنا على Google
facebook